الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1196 ص: وقد جاءت الآثار متواترة عن رسول الله -عليه السلام- وعن أبي بكر وعمر وعثمان -رضي الله عنهم- أنهم كانوا لا يجهرون بها في الصلاة .

                                                حدثنا فهد ، قال: ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ، قال: ثنا إسماعيل بن علية ، عن الجريري ، عن قيس بن عباية ، قال: حدثني ابن عبد الله بن مغفل ، عن أبيه وقل ما رأيت رجلا أشد عليه حدثا في الإسلام منه، فسمعني وأنا أقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم فقال: أي بني، إياك والحدث في الإسلام؛ فإني قد صليت مع رسول الله -عليه السلام- وأبي بكر وعثمان -رضي الله عنهم- فلم أسمعها من أحد منهم ولكن إذا قرأت فقل: الحمد لله رب العالمين" .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد جاءت الأحاديث والأخبار حال كونها متكاثرة مترادفة، عن رسول الله -عليه السلام- وعن أبي بكر الصديق وعمر الفاروق وعثمان ذي النورين -رضي الله عنهم- أنهم كانوا لا يجهرون بالبسملة في الصلاة، فهذا أدل دليل على أن البسملة ليست من الفاتحة، وأنها لا يجهر بها ، والحديث يدل على أن ترك الجهر عندهم كان ميراثا عن نبيهم -عليه السلام- يتوارثونه خلفهم عن سلفهم، وهذا وجه كاف في المسألة، ولو كان -عليه السلام- [ ص: 588 ] يجهر بها دائما لما وقع فيه اختلاف ولا اشتباه، ولكان معلوما بالاضطرار، ولما قال أنس : "لم يجهر بها -عليه السلام- ولا خلفاؤه الراشدون" ولا قال عبد الله بن مغفل ذلك أيضا وسماه "حدثا" ولما استمر أهل المدينة في محراب النبي -عليه السلام- على ترك الجهر، فتوارثه آخرهم عن أولهم، وذلك جار عندهم مجرى الصاع والمد بل أبلغ من ذلك؛ لاشتراك جميع المسلمين في الصلاة؛ ولأن الصلاة تتكرر كل يوم وليلة، وكم من إنسان لا يحتاج إلى صاع ولا مد، ومن يحتاجه يمكث مدة لا يحتاج إليه، ولا يظن عاقل أن أكابر الصحابة والتابعين وأكثر أهل العلم، كانوا يواظبون على خلاف ما كان رسول الله -عليه السلام- يفعله.

                                                ثم إنه أخرج الحديث المذكور عن فهد بن سليمان ، عن أبي بكر عبد الله بن شيبة الحافظ صاحب "المصنف" و: "المسند".

                                                عن إسماعيل ابن علية وهو إسماعيل بن إبراهيم بن سهم البصري ، وعلية اسم أمه، روى له الجماعة.

                                                عن سعد بن إياس الجريري - بضم الجيم وفتح الراء - نسبة إلى جرير بن عباد أخي الحارث بن عباد بن ضبيعة بن قيس بن بكر بن وائل ، روى له الجماعة.

                                                عن قيس بن عباية - بفتح العين - الحنفي الزماني ، قال يحيى : بصري ثقة.

                                                وروى له الأربعة.

                                                عن ابن لعبد الله بن مغفل ولم يعلم اسمه، ويقال: اسمه يزيد .

                                                عن عبد الله بن مغفل الصحابي -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه الترمذي : ثنا أحمد بن منيع ، قال: ثنا إسماعيل بن إبراهيم ، قال: ثنا سعيد بن إياس الجريري ، عن قيس بن عباية ، عن ابن عبد الله بن مغفل قال: "سمعني أبي وأنا في الصلاة أقول: بسم الله الرحمن الرحيم قال: أي بني، [ ص: 589 ] محدث، إياك والحدث - قال: ولم أر أحدا من أصحاب رسول الله -عليه السلام- كان أبغض إليه الحدث في الإسلام يعني منه - قال: وقد صليت مع النبي -عليه السلام- ومع أبي بكر ومع عمر ومع عثمان ، فلم أسمع أحدا منهم يقولها، فلا تقلها، إذا أنت صليت فقل: الحمد لله رب العالمين " .

                                                وأخرجه النسائي : أنا إسماعيل بن مسعود ، قال: ثنا خالد ، قال: نا عثمان بن غياث ، قال: أخبرني أبو نعامة الحنفي ، قال: ثنا ابن عبد الله بن مغفل ، قال: "كان عبد الله بن مغفل إذا سمع أحدنا يقرأ: بسم الله الرحمن الرحيم يقول: صليت خلف رسول الله -عليه السلام- وخلف أبي بكر وخلف عمر -رضي الله عنهما- فما سمعت أحدا منهم قرأ: بسم الله الرحمن الرحيم " .

                                                وأخرجه ابن ماجه : عن أبي بكر بن أبي شيبة نحو رواية الطحاوي .

                                                فإن قلت: ما حكم هذا الحديث؟

                                                قلت: حديث حسن، قال الترمذي عقيب إخراجه: قال أبو عيسى : حديث عبد الله بن مغفل حديث حسن، والعمل عليه عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي -عليه السلام-، منهم أبو بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم، ومن بعدهم من التابعين.

                                                فإن قيل: قال النووي في "الخلاصة": وقد ضعف الحفاظ هذا الحديث، وأنكروا على الترمذي تحسينه كابن خزيمة وابن عبد البر والخطيب ، وقالوا: إن مداره على ابن عبد الله بن مغفل وهو مجهول.

                                                قلت: رواه أحمد في "مسنده": من حديث أبي نعامة ، والطبراني في "معجمه" من طريقين: طريق من عبد الله بن بريدة ، وطريق من أبي سفيان ، فالطرق الثلاثة عن ابن عبد الله بن مغفل .

                                                [ ص: 590 ] وكذلك رواه أبو بكر بن أبي شيبة في "مصنفه".

                                                وقال الخطيب : عبد الله بن بريدة أشهر من أن يثنى عليه، وأبو سفيان السعدي وإن تكلم فيه ولكنه يعتبر منه ما تابعه عليه غيره من الثقات، وهو الذي سمى ابن عبد الله بن مغفل يزيد فحينئذ ترتفع الجهالة عن ابن عبد الله بن مغفل برواية هؤلاء الثلاثة الأجلاء عنه، وبالجملة فهذا حديث صريح في عدم الجهر بالبسملة ، وهو إن لم يكن من أقسام الصحيح فلا ينزل عنه درجة الحسن ، وقد حسنه الترمذي ، والحديث الحسن يحتج به لا سيما إذا تعددت شواهده وكثرت متابعاته، والذين تكلموا فيه وتركوا الاحتجاج به لجهالة ابن عبد الله بن المغفل احتجوا في هذه المسألة بما هو أضعف منه، بل احتج الخطيب بما يعلم أنه موضوع، ولم يحسن البيهقي في تضعيف هذا الحديث إذ قال بعد أن رواه في كتاب "المعرفة" من حديث أبي نعامة : تفرد به أبو نعامة قيس بن عباية ، وأبو نعامة وابن عبد الله بن مغفل لم يحتج بهما صاحبا "الصحيح".

                                                قلت: قوله: "تفرد به أبو نعامة " ليس بصحيح، فقد تابعه عبد الله بن بريدة وأبو سفيان السعدي ، وقوله: وأبو نعامة وابن عبد الله بن مغفل لم يحتج بهما صاحب "الصحيح" ليس بلازم في صحة الإسناد، ولئن سلمنا فقد قلنا: إنه حسن والحسن يحتج به.

                                                قوله: ( وقل ما رأيت رجلا ) معناه: ورؤيتي قليلة جدا في الرجال مثله "أشد عليه الحدث في الإسلام منه" فتكون "ما" مصدرية، يقال: قل رجل يفعل كذا إلا زيد، معناه ما يفعل إلا زيد، والأصل فيه أن تكتب "ما" متصلة ب "قل" كما تكتب كذلك في طالما؛ لأنه لما اختلطت به معنى وتقديرا اختلطت به خطأ وتصويرا.

                                                [ ص: 591 ] قوله: ( حدثا ) نصب على التمييز، وأراد به الأمر المحدث الذي لم يكن في عصر النبي -عليه السلام- ولا في أيام الخلفاء الراشدين -رضي الله عنهم-.

                                                قوله: ( فسمعني وأنا أقرأ ) أي: في الصلاة كما وقع هكذا في رواية الترمذي ؛ وأيضا القرينة تدل على ذلك؛ فافهم .




                                                الخدمات العلمية