الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1154 ص: وقد روي عن أصحابه من بعده -رضي الله عنهم- ما يدل على ذلك أيضا.

                                                حدثنا يونس ، قال: أنا ابن وهب ، أن مالكا حدثه، عن نافع : أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى عماله: إن أهم أمركم عندي: الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، صلوا العصر والشمس بيضاء مرتفعة بيضاء نقية، قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة" .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال: حدثنا نعيم بن حماد ، قال: ثنا يزيد بن أبي حكيم ، عن الحكم بن أبان ، عن عكرمة قال: "كنا مع أبي هريرة -رضي الله عنه-، في جنازة فلم يصل العصر، وسكت حتى راجعناه مرارا فلم يصل العصر حتى رأينا الشمس على رأس أطول جبل بالمدينة " .

                                                حدثنا ابن مرزوق ، قال: ثنا أبو عامر العقدي ، قال: ثنا سفيان ، عن منصور ، عن إبراهيم قال: "كان من كان قبلكم أشد تعجيلا للظهر، وأشد تأخيرا للعصر منكم" .

                                                فهذا عمر -رضي الله عنه- يكتب إلى عماله وهم من أصحاب النبي -عليه السلام- يأمرهم بأن يصلوا العصر والشمس بيضاء مرتفعة، ثم أبو هريرة قد أخرها حتى رآها عكرمة على رأس أطول جبل بالمدينة ، ثم إبراهيم يخبر عمن كان قبله يعني من أصحاب النبي -عليه السلام-

                                                [ ص: 489 ] وأصحاب عبد الله أنهم كانوا أشد تأخيرا للعصر ممن بعدهم، فلما جاء هذا من أفعالهم ومن أقوالهم مؤتلفا على ما ذكرناه، وروي عن النبي -عليه السلام- أنه كان يصليها والشمس مرتفعة، وفي بعض الآثار: "محلقة" وجب التمسك بهذه الأخبار، وترك خلافها، وأن تؤخر العصر حتى لا يكون تأخيرها يدخل مؤخرها إلى الوقت الذي أخبر أنس بن مالك - في حديث العلاء - أن النبي -عليه السلام- قال: "تلك صلاة المنافقين" فإن ذلك الوقت هو الوقت المكروه تأخير صلاة العصر إليه ، فأما ما قبله من وقتها مما لم تدخل الشمس فيه صفرة، وكان الرجل يمكنه أن يصلي فيه صلاة العصر، ويذكر الله - عز وجل - فيها متمكنا ويخرج من الصلاة والشمس كذلك فلا بأس بتأخير العصر إلى ذلك الوقت، فذاك أفضل؛ لما قد تواترت به الآثار عن النبي -عليه السلام-، وعن أصحابه من بعده، ولقد روي عن أبي قلابة أنه قال: "إنما سميت العصر لتعصر" .

                                                حدثنا بذلك صالح بن عبد الرحمن ، قال: ثنا سعيد بن منصور ، قال: ثنا هشيم ، قال: أنا خالد ، عن أبي قلابة قال: "إنما سميت العصر لتعصر" .

                                                قال أبو جعفر - رحمه الله -: فأخبر أبو قلابة أن اسمها هذا إنا هو لأن سبيلها أن تعصر، وهذا الذي استحببناه من تأخير العصر، من غير أن يكون ذلك إلى وقت قد تغيرت فيه الشمس أو دخلتها صفرة، وهو قول أبي حنيفة وأبي يوسف ومحمد بن الحسن - رحمهم الله.

                                                التالي السابق


                                                ش: أي قد روي عن أصحاب النبي -عليه السلام- من بعده ما يدل على استحباب تأخير العصر ، أخرج ذلك عن اثنين من الصحابة وهما عمر بن الخطاب وأبو هريرة ، وواحد من التابعين وهو إبراهيم النخعي .

                                                أما أثر عمر -رضي الله عنه- فقد أخرجه بإسناد رجاله ثقات ولكنه مرسل؛ لأن نافعا لم يدرك عمر بن الخطاب -رضي الله عنه-.

                                                وأخرجه مالك في "موطئه" بأتم منه، عن نافع مولى عبد الله بن عمر : "أن [ ص: 490 ] عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- كتب إلى عماله: إن أهم أموركم عندي الصلاة، من حفظها وحافظ عليها حفظ دينه، ومن ضيعها فهو لما سواها أضيع، ثم كتب أن صلوا الظهر إذا كان الفيء ذراعا إلى أن يكون ظل أحدكم مثله، والعصر والشمس مرتفعة بيضاء نقية قدر ما يسير الراكب فرسخين أو ثلاثة قبل غروب الشمس، والمغرب إذا غربت الشمس، والعشاء إذا غاب الشفق إلى ثلث الليل، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، فمن نام فلا نامت عينه، والصبح والنجوم بادية مشتبكة" .

                                                وأخرجه البيهقي في "سننه"، وفي "المعرفة": أنا أبو أحمد المهرجاني ، قال: أنا أبو بكر بن جعفر ، قال: ثنا محمد بن إبراهيم ، قال: ثنا ابن بكير ، قال: ثنا مالك ، عن نافع : "أن عمر -رضي الله عنه- كتب إلى عماله..." إلى آخره نحوه.

                                                و: "العمال" بضم العين وتشديد الميم: جمع عامل، وأراد نوابه في البلاد من الصحابة.

                                                قوله: (من حفظها وحافظ عليها) أراد بحفظها إقامتها بشروطها وسننها وآدابها، وأراد بالمحافظة عليها: أداءها في أوقاتها.

                                                قوله: (أضيع) أفعل من الضياع، أي أكثر ضياعا لغيرها.

                                                و: "الفرسخ" ثلاثة أميال، والميل ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع.

                                                وأما أثر أبي هريرة فأخرجه أيضا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن نعيم بن حماد بن معاوية المروزي شيخ البخاري ، عن يزيد بن أبي حكيم [العاني] قال أبو حاتم : صالح الحديث، عن الحكم بن أبان العدني أبي عيسى ، وثقه ابن معين والعجلي ، عن عكرمة المدني مولى ابن عباس .

                                                [ ص: 491 ] ومما يؤيد ما فعله أبو هريرة :

                                                ما رواه الدارقطني : من حديث عبد الواحد بن نافع : "أن رسول الله -عليه السلام- كان يأمرهم بتأخير العصر " فهذا وإن كان ضعيفا ولكنه يصلح مؤيدا لما روي عن أبي هريرة .

                                                وأخرج ابن أبي شيبة في "مصنفه": عن وكيع ، عن عمرو بن منبه ، عن سوار بن شبيب ، عن أبي هريرة : "أنه كان يؤخر العصر حتى أقول: قد اصفرت الشمس" .

                                                وأما أثر إبراهيم فأخرجه أيضا بإسناد صحيح، عن إبراهيم بن مرزوق ، عن أبي عامر عبد الملك بن عمرو البصري العقدي ، عن سفيان الثوري ، عن منصور بن المعتمر ، عن إبراهيم .

                                                وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا وكيع ، عن الأعمش ، عن إبراهيم ، قال: "كان من قبلكم أشد تأخيرا للعصر منكم" .

                                                وقد وردت آثار كثيرة في تأخير العصر.

                                                قال عبد الرزاق في "مصنفه": أنا معمر ، عن أيوب ، "عن ابن سيرين وأبي قلابة كانا يمسيان بالعصر" .

                                                عبد الرزاق : عن معمر ، عن خالد الحذاء ، أن الحسن وابن سيرين وأبا قلابة كانوا يمسون بالعصر" .

                                                [ ص: 492 ] عبد الرزاق : عن الثوري ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد : "أن ابن مسعود كان يؤخر العصر" .

                                                وقال ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا وكيع ، عن ابن عون ، عن أبي عاصم ، عن أبي عون : "أن عليا -رضي الله عنه- كان يؤخر العصر حتى ترتفع الشمس على الحيطان" .

                                                ثنا وكيع ، عن إسماعيل ، قال: قال لي إبراهيم : "كان يصلى العصر إذا كان الظل واحدا وعشرين قدما في الشتاء والصيف" .

                                                قوله: (حتى لا يكون تأخيرها) أي: تأخير صلاة العصر.

                                                قوله: (يدخل) بضم الياء من الإدخال.

                                                قوله: (مؤخرها) بالنصب على أنه مفعول "يدخل" أي مؤخر العصر.

                                                قوله: (ولقد روي عن أبي قلابة ) ذكره تأكيدا لما قاله من قوله: "لما قد تواترت به الآثار" عن النبي -عليه السلام- وعن أصحابه من بعده يعني بتأخير العصر.

                                                أخرج ذلك بإسناد صحيح: عن صالح بن عبد الرحمن الأنصاري ، عن سعيد بن منصور الخراساني شيخ مسلم وأبي داود ، عن هشيم بن بشر ، عن خالد بن مهران الحذاء ، عن أبي قلابة عبد الله بن زيد الجرمي أحد الأئمة الأعلام التابعين، توفي بالشام سنة أربع ومائة.

                                                وأخرجه الدارقطني في "سننه": ثنا ابن مخلد ، ثنا الحساني ، ثنا وكيع ، ثنا خارجة بن مصعب ، عن خالد الحذاء ، عن أبي قلابة قال: "إنما سميت العصر لتعصر" .

                                                [ ص: 493 ] وأخرجه ابن أبي شيبة في "مصنفه": ثنا ابن علية ، عن خالد ، عن أبي قلابة ، قال: "إنما سميت العصر لتعصر" .

                                                وأخرج الدارقطني أيضا عن محمد بن الحنفية وطاوس فقال: ثنا محمد بن عبد الله بن غيلان ، ثنا أبو هشام الرفاعي ، ثنا عمي كثير بن محمد ، ثنا ابن شبرمة ، قال: قال محمد بن الحنفية : "إنما سميت العصر لتعصر" .

                                                حدثنا القاضي أبو عمر ، ثنا الحسن بن أبي الربيع ، ثنا أبو عامر ، ثنا إبراهيم بن نافع ، عن مصعب بن محمد ، عن رجل قال: "أخر طاوس العصر جدا فقيل له في ذلك، فقال: إنما سميت العصر لتعصر" . انتهى.

                                                قلت: معنى قولهم: "لتعصر" أي: لتؤخر؛ لأن العصر معناه البطء.

                                                قال الكسائي : جاء فلان عصرا أي بطيئا، قاله الجوهري : والعصر: الحبس، يقال: ما عصرك؟ أي: ما حبسك؟ والمعنى على هذا: لتحبس عن أول وقتها، فيكون اسمه يدل على ما هو المقصود من مسماه، كما جاء في الأثر عن جابر -رضي الله عنه-.

                                                قال ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع ، عن سفيان ، عن عبد الله بن محمد بن عقيل ، عن جابر قال: "الظهر كاسمها، والعصر والشمس بيضاء حية، والمغرب كاسمها؛ كنا نصلي مع رسول الله -عليه السلام- المغرب ثم نأتي منازلنا على قدر ميل فنرى مواقع النبل، وكان يعجل بالعشاء ويؤخر بالفجر كاسمها وكان يغلس بها" .




                                                الخدمات العلمية