الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1061 ص: واحتجوا في ذلك بما حدثنا روح بن الفرج ، قال: ثنا عمرو بن خالد ، قال: ثنا زهير بن معاوية ، قال: ثنا أبو إسحاق ، قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد يقول: "حج عبد الله ، فأمرني علقمة أن ألزمه، فلما كانت ليلة المزدلفة فطلع الفجر، قال: أقم، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ، إن هذه لساعة ما رأيتك تصلي فيها قط، فقال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال عبد الله : هما صلاتان تحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس من المزدلفة ، وصلاة الغداة حين يبزغ الفجر ، ورأيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يفعل ذلك" .

                                                وحدثنا حسين بن نصر ، قال: ثنا الفريابي قال: ثنا إسرائيل ، قال: ثنا أبو إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال: "خرجت مع عبد الله بن مسعود -رضي الله عنه- إلى مكة ، فصلى الفجر يوم النحر حين سطع الفجر، ثم قال: إن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: إن هاتين الصلاتين تحولان عن وقتهما في هذا المكان: المغرب، وصلاة الفجر في هذه الساعة" .

                                                التالي السابق


                                                ش: أي احتج الآخرون فيما ذهبوا إليه من فضيلة الإسفار بالفجر ؛ بحديث عبد الله بن مسعود .

                                                وأخرجه من ثلاث طرق صحاح:

                                                الأول: عن روح بن الفرج القطان أبي الزنباع المصري ، عن عمرو بن خالد بن فروخ الحنظلي أبي الحسن الجزري الحراني أحد مشايخ البخاري وأبي زرعة وأبي حاتم الرازيين [ ص: 379 ] عن أبي زهير معاوية بن حديج أبي خيثمة الكوفي أحد أصحاب أبي حنيفة ، وعن أحمد : زهير فيما روى من المشايخ ثبت بخ بخ. روى له الجماعة.

                                                عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي روى له الجماعة.

                                                عن عبد الرحمن بن يزيد بن قيس النخعي أبي بكر الكوفي ، ابن أخي علقمة بن قيس ، روى له الجماعة... إلى آخره.

                                                وأخرجه البخاري : من حديث إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "خرجت مع عبد الله إلى مكة ، ثم قدمنا جمعا فصلى الصلاتين، كل صلاة وحدها بأذان وإقامة، وتعشى بينها، ثم صلى الفجر وقائل يقول: طلع، وقائل يقول: لا، ثم قال: إن رسول الله -عليه السلام- قال: إن هاتين الصلاتين حولتا عن وقتهما في هذا المكان، ولا يقدم الناس جمعا حتى يعتموا، وصلاة الفجر هذه الساعة، ثم وقف حتى أسفر ثم قال: لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن أصاب السنة، فما أدري أقوله كان أسرع أم دفع عثمان ؟ فلم يزل يلبي حتى رمى جمرة العقبة " .

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده": ثنا عفان ، ثنا جرير بن حازم ، سمعت أبا إسحاق يحدث عن عبد الرحمن بن يزيد قال: "حججنا مع ابن مسعود في خلافة عثمان -رضي الله عنه- قال: فلما وقفنا بعرفة قال: فلما غربت الشمس، قال ابن مسعود : لو أن أمير المؤمنين أفاض الآن كان قد أصاب فلا أدري كلمة ابن مسعود كانت أسرع أو إفاضة عثمان ؟ قال: فأوضع الناس ولم يزد ابن مسعود على العنق حتى أتينا جمعا، فصلى ابن مسعود المغرب، ثم دعى بعشائه فتعشى، ثم قام فصلى العشاء الآخرة، ثم رقد حتى إذا طلع الفجر قام فصلى الغداة، قال: فقلت له: ما كنت تصلي هذه الصلاة هذه الساعة - قال: وكان يسفر بالصلاة - قال: إني رأيت رسول الله -عليه السلام- في هذا اليوم في هذا المكان يصلي في هذه الساعة" .

                                                [ ص: 380 ] قوله: "حين يبزغ الفجر" أي حين يطلع؛ يقال: بزغت الشمس، وبزغ القمر، وغيرهما، إذا طلعت، والبزوغ: الطلوع.

                                                قوله: "حتى يعتموا" أي حتى يدخلوا في وقت العتمة، وهي العشاء.

                                                قوله: "فأوضع الناس" من وضع البعير يضع وضعا، وأوضع راكبه إيضاعا: إذا حمله على سرعة السير.

                                                قوله: "على العنق" وهو ضرب من السير، قال الجوهري : العنق ضرب من سير الدابة والإبل، وهو سير مستطر، أي ممتد.

                                                وهذا يدل على استحباب الإسفار بالفجر؛ لأن عبد الله لما صلى الفجر يومئذ في أول وقته استعجبه عبد الرحمن بن يزيد ؛ لأن عهده أنه يسفر بالفجر دائما، ولهذا قال: إن هذه لساعة ما رأيتك تصلي فيها قط، وقال ابن مسعود في جوابه: إن رسول الله -عليه السلام- كان لا يصلي هذه الساعة - يعني في أول الفجر - إلا هذه الصلاة - يعني صلاة الصبح - في هذا المكان - يعني في مزدلفة - في هذا اليوم - يعني يوم النحر - فدل ذلك أن رسول الله -عليه السلام- كان لا يصلي الفجر دائما إلا في الإسفار إلا في يوم مزدلفة ؛ فإنه كان يغلس بها فيها، لتدارك الوقوف، ولا يعارضه حديث أبي مسعود البدري : "أنه -عليه السلام- صلى الصبح بغلس، ثم صلى مرة أخرى فأسفر بها، ثم كانت صلاته بعد ذلك بالغلس حتى مات -عليه السلام- لم يعد إلى أن يسفر" . من وجهين:

                                                الأول: أن في إسناده أسامة بن زيد قد تكلموا فيه، فقال أحمد : ليس بشيء. وقال أبو حاتم : يكتب حديثه ولا يحتج به. وقال النسائي والدارقطني : ليس بالقوي. فلا يعارض حديث ابن مسعود ؛ لكون رجاله ثقات من رجال الصحيحين.

                                                الوجه الثاني: أن ابن مسعود أخبر بحال الرسول -عليه السلام- من أبي مسعود ؛ لشدة ملازمته رسول الله -عليه السلام-، وكان حامل نعله، ولا يفارقه، وهو أكثر اطلاعا من غيره في أمور عباداته واختياره الأوقات المستحبة فيها.

                                                [ ص: 381 ] فإن قيل: حديث أبي مسعود قد أخرجه البخاري ومسلم والنسائي وأبو داود وابن ماجه ، فهلا يعارض حديث ابن مسعود .

                                                قلت: بلى قد أخرجوه، ولكن البخاري ومسلما لم يذكرا في روايتهما قضية الإسفار مرة، ثم كانت صلاته التغليس حتى مات.

                                                فإن قيل: قد قال المنذري : هذه الزيادة في قضية الإسفار رواتها عن آخرهم ثقات، والزيادة من الثقة مقبولة.

                                                قلت: قد مر جوابه آنفا: أن فيهم أسامة بن زيد ، وقد قيل فيه ما قيل، وقد مر الكلام فيه مرة.

                                                الطريق الثاني: ليس من الطحاوي ، وإنما هو من أبي بكر محمد بن إبراهيم بن المقرئ الذي روينا كتاب "معاني الآثار "عنه عن الطحاوي ، وهو من زيادات أبي بكر ، ولهذا لا يوجد في كثير من النسخ.

                                                يروي عن أبي عروبة الحسن بن محمد الحراني الإمام الحافظ .

                                                عن عبد الرحمن بن عمرو البجلي ، عن زهير بن معاوية ، عن أبي إسحاق .

                                                وأخرجه أحمد في "مسنده": ثنا حسن بن موسى ، ثنا زهير ، ثنا أبو إسحاق ، سمعت عبد الرحمن بن يزيد قال: "حج عبد الله بن مسعود ، فأمرني علقمة أن ألزمه، فلزمته فكنت معه...". فذكر الحديث وفيه: "فلما كان حين طلع الفجر، قال: أقم، فقلت: يا أبا عبد الرحمن ، إن هذه لساعة ما رأيتك صليت فيها قال: قال: "إن رسول الله -عليه السلام- كان لا يصلي هذه الساعة إلا هذه الصلاة في هذا المكان من هذا اليوم، قال عبد الله : هما صلاتان تحولان عن وقتهما: صلاة المغرب بعد ما يأتي الناس المزدلفة ، وصلاة الغداة حين يبزغ الفجر، قال: رأيت رسول الله -عليه السلام- فعل ذلك" .

                                                [ ص: 382 ] الطريق الثالث: عن حسين بن نصر بن المعارك ، عن أبي عبد الله محمد بن يوسف الفريابي شيخ البخاري ، عن إسرائيل بن يونس بن أبي إسحاق ، عن أبي إسحاق عمرو بن عبد الله السبيعي ، عن عبد الرحمن بن يزيد ... إلى آخره.

                                                وأخرجه أحمد أيضا في "مسنده": ثنا عبد الرزاق ، أنا إسرائيل ، عن أبي إسحاق ، عن عبد الرحمن بن يزيد ، قال: "أفضت مع ابن مسعود من عرفة ، فلما جاء المزدلفة صلى المغرب والعشاء كل واحدة منهما بأذان وإقامة، وجعل بينهما العشاء، ثم نام، فلما قال قائل: طلع الفجر. صلى الفجر، ثم قال: إن رسول الله -عليه السلام- قال: إن هاتين الصلاتين أخرتا عن وقتهما في هذا المكان، أما المغرب فإن الناس لا يأتون ها هنا حتى يعتموا، وأما الفجر فهذا الحين، ثم وقف، فلما أسفر قال: إن أصاب أمير المؤمنين دفع الآن، قال: فما فرغ عبد الله من كلامه حتى دفع عثمان -رضي الله عنه- .

                                                قوله: "تحولان" أي: تنقلان وتصليان في غير وقتها المعهود، وهذا دليل صريح إلى أنه -عليه السلام- كان يسفر بالصبح دائما ؛ لأنه قال: "وصلاة الفجر في هذه الساعة" يعني ساعة طلوع الفجر، ولو كان يغلس بها دائما كما غلس بها في هذا اليوم لما قال: "إن هاتين الصلاتين تحولان عن وقتهما" أي عن وقتهما المعهود؛ لأن المعهود في المغرب أن يصلى عقيب غروب الشمس، والمعهود في الصبح أنه كان يصليها عند الإسفار، وإن كان وقتها من بعد طلوع الفجر، ولو لم يكن المعنى ما ذكرنا لخلا كلامه -عليه السلام- عن الفائدة.




                                                الخدمات العلمية