الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                1129 ص: وقد روي عن أنس بن مالك وأبي مسعود -رضي الله عنهما- أن النبي -عليه السلام- كان يعجلها في الشتاء ويؤخرها في الصيف:

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا عبد الله بن صالح ، قال: حدثني الليث ، قال: حدثني يزيد بن أبي حبيب ، عن أسامة بن زيد ، عن محمد بن شهاب ، عن عروة بن الزبير ، قال: أخبرني بشير بن أبي مسعود ، عن أبي مسعود : "أنه رأى النبي -عليه السلام- يصلي الظهر حين تزيغ الشمس، وربما أخرها في شدة الحر " .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال: ثنا المقدمي ، قال: ثنا حرمي بن عمارة ، قال: ثنا أبو خلدة ، قال: ثنا أنس بن مالك ، قال: " كان رسول الله -عليه السلام- إذا اشتد البرد بكر بالصلاة، وإذا اشتد الحر أبرد بالصلاة " .

                                                وحدثنا ابن مرزوق ، قال: ثنا بشر بن ثابت ، قال: ثنا أبو خلدة ، عن أنس بن مالك قال: "كان نبي الله -صلى الله عليه وسلم- إذا كان بالشتاء بكر بالظهر، وإذا كان بالصيف أبرد بها" .

                                                قال أبو جعفر - رحمه الله -: هكذا السنة عندنا في صلاة الظهر على ما ذكر أبو مسعود وأنس -رضي الله عنهما- من صلاة رسول الله -عليه السلام-، وليس فيما قدمنا ذكره في الفصل الأول ما يجب به خلاف شيء من هذا؛ لأن حديث أسامة وعائشة وخباب وأبي برزة -رضي الله عنهم- كلهم عندنا منسوخة بحديث المغيرة الذي رويناه في الفصل الأخير.

                                                وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه- في صلاة الظهر حين زالت الشمس وحلفه أن ذلك وقتها، فليس في ذلك الحديث أن ذلك كان منه في الصيف ولا أنه كان منه في [ ص: 460 ] الشتاء، ولا دلالة في ذلك على خلاف غيره، وهذا أنس بن مالك فقد روى عنه الزهري أن رسول الله -عليه السلام- صلى الظهر حين زالت الشمس ثم جاء أبو خلدة ففسر عنه أنه كان يصليها في الشتاء معجلا وفي الصيف مؤخرا ، واحتمل ما روى ابن مسعود ، وهو كذلك أيضا.

                                                التالي السابق


                                                ش: ذكر حديث أبي مسعود وأنس -رضي الله عنهما- تأكيدا لما ذكره من نسخ حديث المغيرة الأحاديث التي فيها تعجيل الظهر في شدة الحر .

                                                وأخرج حديث أبي مسعود - واسمه عقبة بن عمرو الأنصاري المعروف بالبدري - بإسناد صحيح؛ لأن رجاله كلهم ثقات.

                                                وبشير - بفتح الباء الموحدة وكسر الشين المعجمة - قيل: له صحبة أيضا.

                                                وأخرجه الطبراني في "الكبير" مطولا: ثنا مطلب بن شعيب الأزدي ، ثنا أبو صالح عبد الله بن صالح (ح).

                                                وثنا عبد الرحمن بن معاوية العتبي ، نا يحيى بن بكير ، حدثني الليث ، عن يزيد بن أبي حبيب ، عن أسامة بن زيد ، عن ابن شهاب : "أنهم كانوا على كراسي عمر بن عبد العزيز ومعهم عروة بن الزبير ، فدعاه المؤذن لصلاة العصر..." الحديث. ذكرناه بتمامه في أول باب الوقت الذي يصلى فيه الفجر؛ لأن الطحاوي قد ذكر هناك قطعة منه بالإسناد الذي ذكره ها هنا بعينه.

                                                وأخرج حديث أنس من طريقين صحيحين:

                                                الأول: عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن محمد بن أبي بكر بن عطاء بن مقدم المقدمي - بفتح الدال - شيخ البخاري ومسلم .

                                                عن حرمي بن عمارة بن أبي حفصة البصري .

                                                عن أبي خلدة - بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام - واسمه خالد بن دينار البصري الخياط . [ ص: 461 ] عن أنس بن مالك .

                                                وأخرجه النسائي : أنا عبيد الله بن سعيد ، قال: أبنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، قال: أبنا خالد بن دينار أبو خلدة ، قال: سمعت أنس بن مالك قال: " كان رسول الله -عليه السلام- إذا كان الحر أبرد بالصلاة، وإذا كان البرد عجل " .

                                                قوله: "بكر" أي أتى الصلاة في أول وقتها، وكل من أسرع إلى شيء فقد بكر إليه.

                                                الثاني: عن إبراهيم بن مرزوق ، عن بشر بن ثابت البصري أبي محمد البزار - بالراء المهملة في آخره - عن أبي خلدة ، عن أنس .

                                                وأخرجه أبو العباس السراج في "مسنده": ثنا إبراهيم بن سعيد الجوهري ، ثنا يحيى بن خليف بن عقبة بصري ، عن أبي خلدة ، عن أنس بن مالك قال: "كان رسول الله -عليه السلام- إذا كان البرد بكر بالصلاة، وإذا كان الحر أخرها" .

                                                قوله: "قال أبو جعفر .. " إلى آخره، ظاهر عن البيان.

                                                قوله: "وأما حديث ابن مسعود -رضي الله عنه-..." إلى آخره جواب عما استدلت به أهل المقالة الأولى، من جملة الأحاديث التي ذكرت في الفصل الأول منها حديث مسروق قال: "صليت خلف عبد الله بن مسعود الظهر حين زالت الشمس، فقال: هذا - والذي لا إله إلا هو - وقت هذه الصلاة" وتقرير الجواب: أنه لا دلالة فيه أنه كان ذلك في الصيف، ولا أنه كان في الشتاء، وإنما هو بيان وقت الظهر، ونحن نقول به.

                                                وأما الإبراد في الصيف والتعجيل في الشتاء فأمر زائد على ذلك، فلا دلالة له على ذلك، وهذا كحديث الزهري عن أنس : "أن رسول الله -عليه السلام- صلى الظهر حين زالت الشمس" ، ثم جاء أبو خلدة خالد بن دينار فسر عن أنس أنه كان يصليها في الشتاء معجلا وفي الصيف مؤخرا، وحديث ابن مسعود -رضي الله عنه- يحتمل هذا الوجه، فلا يتم [ ص: 462 ] لهم به استدلال، وعندي جواب آخر أحسن منه، وهو أن ابن مسعود إنما أكد كلامه بيمينه على أن دخول وقت الظهر من زوال الشمس عن كبد السماء، وليس يمينه على أن وقت الظهر هو الوقت الذي صلى فيه الظهر فقط؛ لأن وقت الظهر أكثر من الوقت الذي صلى هو فيه؛ لأنه ينتهي إلى أنه يصير ظل كل شيء مثله أو مثليه على الخلاف، فيكون معنى قوله: "هو وقت الظهر" أي: هو وقت دخول الظهر، واستحقاقه، وليس فيه دلالة على استحباب ذلك الجزء من الوقت، فافهم.




                                                الخدمات العلمية