الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1763 [ 931 ] وعن أبي سعيد الخدري قال : بعث علي بن أبي طالب إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من اليمن بذهبة في أديم مقروظ ، لم تحصل من ترابها قال : فقسمها بين أربعة نفر : بين عيينة بن بدر ، والأقرع بن حابس ، وزيد الخيل ، والرابع إما علقمة بن علاثة ، وإما عامر بن الطفيل ، فقال رجل من أصحابه : كنا نحن أحق بهذا من هؤلاء ، قال : فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : ( ألا تأمنوني ؟ وأنا أمين من في السماء يأتيني خبر السماء مساء وصباحا قال : فقام رجل غائر العينين ، مشرف الوجنتين ، ناشز الجبهة ، كث اللحية ، محلوق الرأس ، مشمر الإزار ، فقال : يا رسول الله! اتق الله . فقال : (ويلك أولست أحق أهل الأرض أن يتقي الله ؟ " قال : ثم ولى الرجل . فقال خالد بن الوليد : يا رسول الله! ألا أضرب عنقه ؟ فقال : (لا . لعله أن يكون يصلي " قال خالد : وكم من مصل يقول بلسانه ما ليس في قلبه . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (إني لم أؤمر أن أنقب عن قلوب الناس ، ولا أشق بطونهم) قال : ثم نظر إليه وهو مقف فقال : (إنه يخرج من ضئضئ هذا قوم يتلون كتاب الله رطبا لا يجاوز حناجرهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، قال : أظنه قال : (لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل ثمود) .

                                                                                              وفي رواية : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : (فمن يطيع الله إن عصيته ؟ ! أيأمنني الله على أهل الأرض ولا تأمنوني ؟ " وفيها : (إن من ضئضئ هذا قوما يقرءون القرآن لا يجاوز حناجرهم ، يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان ، يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية ، لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد) .

                                                                                              رواه أحمد (3 \ 4)، والبخاري (4351)، ومسلم (1064) (144)، وأبو داود (4764)، والنسائي (5 \ 87-88) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              وقوله : ( بذهبة في أديم مقروظ ) ; الذهبة : تأنيث الذهب . وكأنه ذهب به إلى معنى القطعة ، أو الجملة . والأديم " : الجلد . والمقرظ " : المدبوغ بالقرظ ، وهو شجر يدبغ به .

                                                                                              وقوله : " والرابع إما علقمة ، وإما عامر " ، هذا شك ، وهو وهم . وذكر " عامر " هنا خطأ ، فإن عامرا هلك قبل ذلك بسنين ، ولم يدرك هذا الحين . والصواب : علقمة بن علاثة ، كما جاء في الحديث الآخر من غير شك .

                                                                                              وقوله - صلى الله عليه وسلم - : ( أنا أمين من في السماء ) ; لا حجة فيه لمن يرى : أن الله مختص بجهة فوق ; لما تقدم من استحالة الجسمية ، وأيضا : فيحتمل أن يراد بمن [ ص: 112 ] في السماء) : الملائكة ، فإنه أمين عندهم ، معروف بالأمانة . والسماء بمعنى العلو والرفعة المعنوية . وهكذا القول في قوله تعالى : أأمنتم من في السماء وقد تقدم أن التسليم في المشكلات أسلم .

                                                                                              و ( مشرف الوجنتين ) : مرتفعهما . و ( كث اللحية ) : كثيفها ، قصير شعرها ، يقال : رجل كث اللحية ، بين الكثاثة والكثوثة ، وأكث . و ( ناشز الجبهة ) : باديها ومرتفعها . و ( مقف ) : مول قفاه .

                                                                                              وفي هذا الحديث : أن خالدا قال : يا رسول الله! ألا أضرب عنقه . وفي حديث جابر : أن عمر بن الخطاب قال : دعني يا رسول الله ، فأقتل هذا المنافق . لا إشكال فيه ; إذ الجمع ممكن ، بأن يكون كل واحد منهما قال ذلك . وأجيب كل واحد منهما بغير ما أجيب به الآخر ، والله أعلم .

                                                                                              [ ص: 113 ] وقوله : ( لئن أدركتهم لأقتلنهم قتل عاد ) ، وفي الأخرى : ( قتل ثمود ) ، ووجه الجمع : أن يكون النبي - صلى الله عليه وسلم - قال كليهما ، فذكر أحد الرواة أحدهما ، وذكر الآخر الآخر . ومعنى هذا : أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يقتلهم قتلا عاما ; بحيث لا يبقي منهم أحدا في وقت واحد ، لا يؤخر قتل بعضهم عن بعض ، ولا يقيل أحدا منهم ، كما فعل الله بعاد ; حيث أهلكهم بالريح العقيم ، وبثمود حيث أهلكهم بالصيحة .

                                                                                              وقوله : ( لعله أن يكون يصلي ) ; هو مردود للمعنى الذي قدمناه ; من أنه إنما امتنع من قتله ; لئلا يتحدث : أنه يقتل أصحابه المصلين ، فيكون ذلك منفرا ، وإلا فقد صدر عنه ما يوجب قتله لولا المانع .

                                                                                              وقوله : ( لم أومر أن أنقب على قلوب الناس ) ; أي : إنما أمرت أن آخذ بظواهر أمورهم ، وأكل بواطنهم إلى الله تعالى . وهذا كما قال : (أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها ، وحسابهم على الله) .

                                                                                              [ ص: 114 ] وقوله : ( يتلون كتاب الله رطبا ) ; فيه ثلاثة أقوال :

                                                                                              أحدها : أنه الحذق بالتلاوة ، والمعنى : أنهم يأتون به على أحسن أحواله .

                                                                                              والثاني : يواظبون على تلاوته ، فلا تزال ألسنتهم رطبة به .

                                                                                              والثالث : أن يكون من حسن الصوت بالقراءة .

                                                                                              وقوله : ( يقتلون أهل الإسلام ، ويدعون أهل الأوثان ) ; هذا منه - صلى الله عليه وسلم - إخبار عن أمر غيب وقع على نحو ما أخبر عنه ، فكان دليلا من أدلة نبوته - صلى الله عليه وسلم - ، وذلك : أنهم لما حكموا بكفر من خرجوا عليه من المسلمين ، استباحوا دماءهم ، وتركوا أهل الذمة ، وقالوا : نفي لهم بذمتهم ، وعدلوا عن قتال المشركين ، واشتغلوا بقتال المسلمين عن قتال المشركين .

                                                                                              وهذا كله من آثار عبادات الجهال ، الذين لم يشرح الله صدورهم بنور العلم ، ولم يتمسكوا بحبل وثيق ، ولا صحبهم في حالهم ذلك توفيق . وكفى بذلك: أن مقدمهم رد على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمره ، ونسبه إلى الجور ، ولو تبصر لأبصر عن قرب أنه لا يتصور الظلم والجور في حق رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كما لا يتصور في حق الله تعالى ; إذ الموجودات كلها ملك لله تعالى ، ولا يستحق أحد عليه حقا ، فلا يتصور في حقه شيء من ذلك .

                                                                                              والرسول - صلى الله عليه وسلم - مبلغ حكم الله تعالى ، فلا يتصور في حقه من ذلك ما لا يتصور في حق مرسله . ويكفيك من جهلهم وغلوهم في بدعتهم حكمهم بتكفير من شهد له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصحة إيمانه ، وبأنه من أهل الجنة ، كعلي وغيره [من صحابة [ ص: 115 ] رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، مع ما وقع في الشريعة ، وعلم على القطع والثبات من شهادات الله ورسوله لهم ، وثنائه على علي والصحابة عموما وخصوصا] .




                                                                                              الخدمات العلمية