الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                              صفحة جزء
                                                                                              1876 [ 983 ] وعنه قال: سافر رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في رمضان فصام حتى بلغ عسفان ، ثم دعا بإناء فيه شراب فشربه نهارا ليراه الناس ، ثم أفطر حتى دخل مكة ، قال ابن عباس: فصام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأفطر ، فمن شاء صام ، ومن شاء أفطر .

                                                                                              رواه أحمد (1 \ 259)، والبخاري (4279)، ومسلم (1113) (88)، وأبو داود (2404)، والنسائي (4 \ 184)، وابن ماجه (1661) .

                                                                                              التالي السابق


                                                                                              (10) ومن باب: جواز الصوم والفطر في السفر

                                                                                              ( الكديد ) ما بينه وبين مكة اثنان وأربعون ميلا . و ( عسفان ) قرية جامعة على ستة وثلاثين ميلا من مكة . وفي الحديث الآتي : (كراع الغميم) . والغميم - بفتح الغين - : واد أمام عسفان بثمانية أميال . و ( كراع ) : جبل أسود هناك يضاف إلى الغميم . والكراع لغة : هو كل أنف مال من جبل أو غيره .

                                                                                              وهذه الأحاديث المشتملة على ذكر هذه المواضع الثلاثة كلها ترجع إلى معنى واحد . وهي حكاية حاله - صلى الله عليه وسلم - عن سفر في قدومه إلى فتح مكة . وكان في رمضان في ستة عشر منه ، كما جاء في حديث أبي سعيد . وهذه المواضع متقاربة . ولذلك عبر كل واحد من الرواة بما حضر له من تلك المواضع لتقاربها واختلف فيحكم الفطر في السفر ; فالجمهور على أن المسافر إن صام في سفره أجزأه . وذهب بعض أهل الظاهر : [ ص: 176 ] إلى أنه لا يجزئه ، ولا ينعقد ، وعليه القضاء أبدا . وحكي عن ابن عمر : أنه قال : من صام في السفر قضى في الحضر . وحكي أنه مذهب عمر . ومتمسك هؤلاء : ظاهر قوله تعالى : فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر ; أي : فعليه عدة ، أو فالواجب عدة . وتأوله الجمهور : بأن هناك محذوفا ، تقديره : فأفطر . واستدلوا على صحته بما يأتي بعد هذا من الأحاديث الآتية في هذا الباب . وكره أحمد بن حنبل الصوم في السفر ، ولم يأمر بالقضاء .

                                                                                              واختلف الجمهور في الأفضل : هل هو الصوم أو الفطر ؟ أو لا فضيلة لأحدهما على الآخر . وممن ذهب إلى الأول أنس بن مالك ، ومالك في المشهور عنه ، والشافعي ، على أن الفطر من باب الرخص ، وأن فعل الصوم مبادرة إلى تخليص الذمم ، ومسابقة إلى الخيرات ، وقد أمر الله بذلك في قوله : فاستبقوا الخيرات وإلى الثاني ذهب ابن عباس ، وابن عمر ، وغيرهما . وعلى الثالث جل أهل المذهب ، وهو التخيير ، وعليه تدل الأحاديث المذكورة في هذا الباب .

                                                                                              ثم هل هذا في كل سفر : طاعة كان أو معصية ، طويلا كان أو قصيرا ؟ وقد تقدم ذكر الخلاف فيه في باب : قصر الصلاة في السفر .

                                                                                              وقوله : ( خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح في رمضان ; فصام ، فلما بلغ الكديد أفطر ) ; هذا حجة على من يقول : إن الصوم لا ينعقد في السفر ، فإن النبي - صلى الله عليه وسلم - قد صام من خروجه من المدينة إلى أن بلغ الكديد ، وصام الناس معه . وهو حجة لمن يقول : إن من بيت الصوم في السفر فله أن يفطر ، وإن لم يكن له عذر ، وإليه ذهب مطرف ، وهو أحد قولي الشافعي . وعليه جماعة من أصحاب الحديث .

                                                                                              والجمهور على منع ذلك إلا لعذر ، متمسكين بأنه قد شرع في أخذ ما خير فيه ; فيلزمه المضي فيه ; إذ قد عينه بفعله ، وحملوا فطر النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجود العذر المسوغ من حصول الضعف بالصوم عن مقاومة العدو ، وعن القيام بوظائف [ ص: 177 ] الجهاد ، ولما حصل لهم من الجهل والمشقة بالصوم ، كما قال : فسقط الصوام ، وقد روى البزار من حديث أبي سعيد الخدري : أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لما رأى ما هم فيه ، ووصل إلى الماء ، قال لهم : (اشربوا) ، فقالوا : لا نشرب حتى تشرب . قال : (إني لست مثلكم ، إني راكب وأنتم مشاة) ، فقالوا : لا نشرب حتى تشرب ، فشرب ، وشربوا .

                                                                                              وعلى مذهب المنع فلو أفطر من غير عذر فهل تلزمه الكفارة ، أو لا تلزمه ؟ ثلاثة أقوال : يفرق في الثالث بين أن يفطر بجماع ، فتجب ، أو بغيره فلا تجب . وكذلك اختلف فيمن طرأ عليه السفر ، وقد بيت الصوم في الحضر . فالجمهور على أنه لا يجوز أن يفطر إلا مع العذر . فلو أفطر من غير عذر ففي الكفارة ثلاثة أقوال : يفرق في الثالث بين المتأول ، فتسقط عنه ، وبين غيره ، فلا تسقط .

                                                                                              وقوله : ( وكان صحابته - صلى الله عليه وسلم - يتبعون الأحدث فالأحدث من أمره ) ; وهو قول الزهري كما فسره في الرواية الأخرى ونسبه إليه . ولذلك ذكره مسلم بعده . وظاهر [ ص: 178 ] كلام ابن شهاب : أن الذي استقر عليه أمره - صلى الله عليه وسلم - إنما كان : الفطر في السفر ، وأن الصوم السابق منسوخ .

                                                                                              وهذا الظاهر ليس بصحيح بدليل الأحاديث الآتية بعد هذا ; فإنها تدل على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - صام بعد ذلك في السفر ، وأصحابه كذلك ، وجد فيه . ومن أدل ذلك قول أبي سعيد : ثم لقد رأيتنا نصوم بعد ذلك في السفر مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - . وما خرجه النسائي عن عائشة : أنها سافرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في عمرته ، فقالت : يا رسول الله ! قصرت وأتممت ، وأفطرت وصمت . فقال : (أحسنت يا عائشة !) ، وما عابه علي .

                                                                                              ويمكن أن يحمل قول الزهري : على أنه أراد أن يخبر بقاعدتهم الكلية الأصولية في الاقتداء بأفعال النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما تحققت فيه المعارضة ، لا في هذا الموضع ; فإنه لم يتحقق فيه المعارضة ، والله تعالى أعلم .




                                                                                              الخدمات العلمية