الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الرابعة أن يتوقى مواقع الريبة والاشتباه في مقدار ما يأخذه فلا يأخذ إلا المقدار المباح ولا يأخذ إلا إذا تحقق أنه موصوف بصفة الاستحقاق فإن كان يأخذه بالكتابة والغرامة فلا يزيد على مقدار الدين وإن كان يأخذ بالعمل فلا يزيد على أجرة المثل وإن أعطي زيادة أبى وامتنع ؛ إذ ليس المال للمعطي حتى يتبرع به وإن كان مسافرا لم يزد على الزاد وكراء الدابة إلى مقصده وإن كان غازيا لم يأخذ إلا ما يحتاج إليه للغزو خاصة من خيل وسلاح ونفقة .

وتقدير ذلك بالاجتهاد ، وليس له حد وكذا زاد السفر والورع ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه وإن أخذ بالمسكنة فلينظر أولا إلى أثاث بيته وثيابه .

وكتبه هل فيها ما يستغنى عنه بعينه أو يستغنى عن نفاسته ، فيمكن أن يبدل بما يكفي ويفضل بعض قيمته وكل ذلك إلى اجتهاده وفيه طرف ظاهر يتحقق معه أنه مستحق وطرف آخر مقابل يتحقق معه أنه غير مستحق وبينهما أوساط مشتبهة ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه والاعتماد في هذا على قول الآخذ ظاهرا

التالي السابق


(الرابعة أن يتوقى) الآخذ أي: يتحفظ (مواقع الريبة والاشتباه في مقدار ما يأخذه فلا يأخذ إلا القدر المباح) كما ذكر، (ولا يأخذ إلا إذا تحقق أنه موصوف بصفة الاستحقاق) من الصفات الثمانية، (فإن كان يأخذه بالكتابة أو الغرامة فلا يزيد على مقدار الدين) فإن قدر المكاتب والغارم على بعضه يأخذ الباقي (وإن كان يأخذ بالعمل) على الصدقة (فلا يزيد على أجرة المثل فإن أعطي زيادة أبى) من أخذه (وامتنع؛ إذ ليس المال للمعطي حتى يتبرع به) ، اعلم أن العامل استحقاقه بالعمل حتى لو حمل أصحاب الأموال زكاتهم إلى الإمام أو إلى والي البلد قبل قدوم العامل فلا شيء له، ويستحق أجرة المثل لعمله، فإن شاء الإمام بعثه بلا شرط ثم أعطاه مثل أجرة عمله، وإن شاء سمى له قدر أجرته إجازة أو جعالة ويؤديه من الزكاة، ولا يسمى أكثر من أجرة المثل، فإن زاد فهل تفسد التسمية أم يكون قدر الأجرة من الزكاة والزائد في خالص مال الإمام؟ وجهان، قال النووي: أصحهما: الأول، فإن زاد سهم العاملين على أجرته رد الفاضل على سائر الأصناف، وإن نقص فالمذهب أنه يكمل من مال الزكاة ثم يقسم، وفي قول من خمس الخمس، وقيل: يتخير الإمام بينهما بحسب المصلحة، وقيل: إن بدأ بالعامل كمله من الزكاة وإلا فمن الخمس؛ لعسر الاسترداد من الأصناف، وقيل: إن فضل من حاجة الأصناف فمن الزكاة وإلا فمن بيت المال، وهذا الخلاف في جواز التكميل من الزكاة، واتفقوا على جواز التكميل من سهم المصالح مطلقا، بل لو رأى الإمام أن يجعل أجرة العامل كلها من بيت المال جاز، وتقسم الزكاة على سائر الأصناف، (وإن كان) يأخذه لكونه ابن السبيل أي: (مسافرا لم يزد على) ما يبلغه من (الزاد) أي: النفقة والكسوة إن احتاج إليها بحسب الحال شتاء وصيفا ويأخذ المركوب إن كان بنفسه ضعيفا لا يستطيع المشي، أو كان السفر طويلا، وإن كان السفر قصيرا أو هو قوي على المشي لم يأخذ ويأخذ ما ينقل زاده ومتاعه إلا أن يكون قدرا يعتاد مثله أن يحمله بنفسه، (و) قال السرخسي في الأمالي: إن ضاق المال أعطى (كراء الدابة) وإن اتسع اشترى من ذلك المال مركوبا إلى أن يبلغ (إلى مقصده) أو موضع ماله إن كان له في طريقه مال، وإذا تم سفره رد الدابة على الصحيح الذي قاله الجمهور، ثم كما يأخذ لذهابه يأخذ لرجوعه إن أراد الرجوع، ولا مال له في مقصده، هذا هو الصحيح، وفي وجه لا يأخذ للرجوع في ابتداء سفره؛ لأنه سفر آخر، وإنما يأخذ إذا أراد الرجوع، ووجه ثالث أنه إن كان على عزم أن يصل الرجوع بالذهاب أخذ للرجوع أيضا، وإن كان على عزم أن يقيم هناك مدة لم يأخذ، ولا يأخذ لمدة الإقامة إلا مدة المسافرين بخلاف الغازي؛ حيث يأخذ للمقام في الثغر وإن طال؛ لأنه قد يحتاج إليه لتوقع فتح الحصن، ولأنه لا يزول عنه الاسم بطول المقام هذا هو الصحيح، وعن صاحب التقريب: إن أقام ابن السبيل لحاجة يتوقع زوالها أخذ، وإن زادت إقامته الحاضرين، وهل يأخذ ابن السبيل جميع كفايته أو ما زاد بسبب السفر؟ وجهان؛ أصحهما: الأول، (وإن كان غازيا لم يأخذ) إلا إذا حضر وقت الخروج ليهيئ به أسباب سفره، فإذا أخذ ولم يخرج فإنه يسترد منه، فإن مات في الطريق أو امتنع من الغزو يسترد منه ما بقي، وإن غزا فرجع ومعه بقيته، فإن لم يقتر على نفسه وكان الباقي شيئا صالحا رده، وإن قتر على نفسه أو لم يقتر إلا أن الباقي شيء يسير لم يسترد قطعا، وفي مثله في ابن السبيل: يسترد على الصحيح؛ لأن الغازي لحاجتنا وهي أن يغزو وقد فعل، وفي ابن السبيل لحاجته وقد زالت، ثم إن الغازي إذا أخذ بهذه الصفة فلا يأخذ (إلا ما يحتاج إليه للغزو وخاصة من فرس وسلاح ونفقة) ، وفي بعض شروح المفتاح أن الغازي يأخذ نفقته ونفقة عياله ذهابا ومقاما ورجوعا، وسكت الجمهور عن نفقة العيال لكن أخذها ليس ببعيد، ثم إن للإمام الخيار إن شاء دفع الفرس والسلاح إلى الغازي تمليكا، وإن شاء استأجر له مركوبا، وإن شاء اشترى خيلا من هذا السهم ووقفها في سبيل الله تعالى فيعيرهم إياها عند الحاجة، فإذا انقضت استرد، وفيه وجه: أنه لا يجوز أن يشتري لهم الفرس والسلاح قبل وصول [ ص: 159 ] السلاح إليهم، (وتقدير ذلك) كله (بالاجتهاد، وليس له حد) يوقف عليه، (وكذا زاد السفر) كابن السبيل (والورع) في ذلك كله (ترك ما يريبه إلى ما لا يريبه) كما ورد ذلك في الخبر، (وإن أخذ بالمسكنة) أو بالفقر فإنه يأخذ ما تزول به حاجته وتحصل كفايته، ويختلف ذلك باختلاف الناس والنواحي، فالمحترف الذي لا يجد آلة حرفته يأخذ ما يشتريها به، قلت قيمتها أو كثرت، والتاجر يأخذ رأسي مال ليشتري به ما يحسن التجارة فيه، ويكون قدره ما يفي به ربحه بكفايته غالبا، وأوضحوه بالمثال فقالوا: البقلي يكتفي بخمسة دراهم، والباقلاني بعشرة، والفاكهي بعشرين، والخباز بخمسين، والبقال بمائة، والعطار بألف، والبزار بألفين، والصيرفي بخمسة آلاف، والجوهري بعشرة آلاف، (فلينظر) المسكين (أولا إلى أثاث بيته) ومتاعه (و) إلى (كتبه) التي يملكها (هل فيها ما يستغنى عنه بعينه أو يستغنى عن نفاسته، فيمكن أن يبدل) ذلك (بما يكفي) ؛ كأن يكون عنده كتابان في فن واحد أحدهما يغني عن الآخر، (ويفضل قيمته) ، وإلا فلا يجوز له أخذ شيء باسم المسكنة، (وكل ذلك) موكول (إلى اجتهاده وفيه طرف ظاهر يتحقق معه أنه مسكين ومستحق) باسم المسكنة، (وطرف آخر مقابل) للظاهر (يتحقق) معه (أنه غير مستحق) بهذا الاسم، (وبينهما) أن بين الطرفين (أوساط) مشتبهة (ومن حام حول الحمى يوشك أن يقع فيه) ، كما ورد ذلك في الصحيح في حديث طويل، (والاعتماد في هذا على قول الآخذ ظاهرا) بأن يقول: أنا مسكين أنا فقير، فيصدق في قوله؛ لأن معرفة الفقر والمسكنة والغنى أمر خفي لا يظهر في أول وهلة .




الخدمات العلمية