الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الرابع : إذا انعقد إحرامه بالتلبية المذكورة فيستحب أن يقول : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وأعني على أداء فرضه وتقبله مني اللهم إني نويت أداء فريضتك في الحج ، فاجعلني من الذين استجابوا لك وآمنوا بوعدك واتبعوا أمرك ، واجعلني من وفدك الذين رضيت عنهم وارتضيت وقبلت منهم ، اللهم فيسر لي أداء ما نويت من الحج ، اللهم قد أحرم لك لحمي وشعري ودمي وعصبي ومخي وعظامي ، وحرمت على نفسي النساء والطيب ولبس المخيط ؛ ابتغاء وجهك والدار الآخرة .

ومن وقت الإحرام حرم عليه المحظورات الستة التي ذكرناها من قبل فليجتنبها .

الخامس : يستحب تجديد التلبية في دوام الإحرام خصوصا عند اصطدام الرفاق ، وعند اجتماع الناس ، وعند كل صعود وهبوط ، وعند كل ركوب ونزول رافعا بها صوته بحيث لا يبح حلقه ولا ينبهر فإنه لا ينادي أصم ولا غائبا كما ورد في الخبر .

ولا بأس برفع الصوت بالتلبية في المساجد الثلاثة ، فإنها مظنة المناسك ، أعني : المسجد الحرام ومسجد الخيف ومسجد الميقات وأما سائر المساجد فلا بأس فيها بالتلبية من غير رفع صوت وكان صلى الله عليه وسلم إذا أعجبه شيء قال : لبيك إن العيش عيش الآخرة .

التالي السابق


(الرابع : إذا انعقد إحرامه بالتلبية المذكورة) وظاهر كلام أصحابنا أنه يصير شارعا بالنية والتلبية ، وقال حسام الدين الشهيد : يصير شارعا بالنية ، لكن عند التلبية لا بالتلبية ، كما يصير شارعا بالصلاة عند التكبير لا بالتكبير ، وعن أبي يوسف أنه يصير شارعا بالنية وحدها من غير تلبية ، وبه قال الشافعي ؛ لأنه بالإحرام التزم الكف عن المحظورات ، فيصير شارعا بمجرد النية كالصوم ، وقال صاحب الهداية : ولا يصير شارعا في الإحرام بمجرد النية ما لم يأت بالتلبية . خلافا للشافعي ؛ لأنه عقد على الأداء فلا بد من ذكر كما في تحريمه الصلاة . . أهـ .

(فيستحب له أن يقول : اللهم إني أريد الحج فيسره لي وأعني على أداء فرضه وتقبله مني) لما كان الحج لا يخلو عن المشقة عادة ؛ لأن أداءه في أزمنة متفرقة وأماكن متباعدة ، فحسن سؤال التيسير من الله تعالى ؛ لأنه الميسر لكل عسير ، وكذا سؤال القبول منه ، كما سأل إبراهيم وإسماعيل -عليهما السلام- في قوله : ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم وهذا القدر من الدعاء يكفي ، ولا بأس أن يزيد عليه فيقول : (اللهم إني نويت أداء فريضتك في الحج ، فاجعلني من الذين استجابوا لك) أي في جواب النداء من الأصلاب والأرحام (وآمنوا بوعدك واتبعوا أمرك ، واجعلني من وفدك الذين رضيت عنهم وارتضيت وقبلت ، اللهم فيسر لي أداء ما نويت من الحج ، اللهم قد أحرم لك شعري ولحمي ودمي وعصبي ومخي وعظامي ، وحرمت على نفسي النساء والطيب ولبس المخيط ؛ ابتغاء وجهك والدار الآخرة) ولا بد من ملاحظة معاني هذه الكلمات مع توجه القلب (ومن وقت الإحرام حرم عليه المحظورات الستة التي ذكرناها من قبل فليجتنبها . الخامس : يستحب تجديد التلبية ) وتكثيرها (في دوام الإحرام) قائما كان أو قاعدا ، راكبا كان أو ماشيا ؛ لأنه ذكر لا إعجاز فيه فأشبه التسبيح ، (وخصوصا عند اصطدام الركاب وتلقي الرفاق ، وعند اجتماع الناس ، وعند كل صعود وهبوط ، وعند كل) حدوث حادث من (ركوب أو نزول) أو فراغ من صلاة ، وعند إقبال الليل والنهار ووقت السحر ، ويروى عن جابر أنه -صلى الله عليه وسلم- كان يلبي في حجه إذا لقي ركبا ، أو علا أكمة ، أو هبط واديا ، وفي أدبار المكتوبة وآخر الليل ، وعند ابن أبي شيبة من رواية أبي سابط قال : كان السلف يستحبون التلبية في أربعة مواضع : في دبر الصلاة ، وإذا هبطوا واديا ، أو علوه ، وعند التقاء الرفاق (رافعا صوته) بها أي : يستحب رفع الصوت بها لما أخرجه مالك في الموطأ والشافعي عنه وأحمد وأصحاب السنن وابن حبان والحاكم والبيهقي من حديث خلاد بن السائب عن أبيه رفعه قال : أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي فيرفعوا أصواتهم بالتلبية ، قال الترمذي : صحيح . وصححه ابن حبان والحاكم .

وأخرج الترمذي وابن ماجه والحاكم والبيهقي من حديث أبي بكر الصديق رضي الله عنه رفعه : "أفضل الحج العج والثج " والعج : رفع الصوت بالتلبية ، ورواه أبو حنيفة في مسنده عن قيس بن مسلم عن طارق بن شهاب عنه ، وهو عند ابن أبي شيبة في المصنف عن أبي أسامة عن أبي حنيفة ، وفي كلام ذكرناه في "الجواهر المنيفة " ، وإنما يستحب رفع الصوت في حق الرجل (بحيث لا يبح حلقه ولا ينبهر) أي : لا يرفع بحيث يجهده ، ويقطع صوته بالبحوحة والانبهار ، والنساء يقتصرن على أنفسهن ، ولا يجهرن كما لا يجهرن في الصلاة .

قال القاضي الروياني : فلو رفعت صوتها بالتلبية لم يحرم ؛ لأن صوتها ليس بعورة خلافا لبعض الأصحاب (فإنه لا ينادي أصم ولا غائبا كما ورد في الخبر) .

قال العراقي : متفق عليه من حديث أبي موسى . . أهـ .

قلت : أخرجه البخاري من طريق سفيان الثوري ، ومسلم من طريق حفص بن غياث ومحمد بن فضيل ، وأبو داود من طريق أبي إسحاق الفزاري ، وابن ماجه من رواية جرير ، كلهم عن عاصم الأحول ، عن أبي عثمان ، عن أبي موسى قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر فأشرفنا على واد فقالوا : لا إله إلا الله والله أكبر . وجعلوا يجهرون بالتكبير ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ ص: 339 ] "يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم ، فإنكم لا تدعون أصم ولا غائبا ، إنما تدعون سميعا قريبا وهو معكم " . وأخرجه مسلم أيضا عن أبي بكر بن أبي شيبة عن عاصم ، وأخرجه أحمد عن أبي معاوية الضرير ، وأخرجه عبد بن حميد عن حسين الجعفي عن زائدة ، كلاهما عن عاصم مثله ، إلا أن في رواية زائدة : "إنه معكم " وأخرجه مسلم أيضا من طريق معتمر بن سليمان عن أبيه عن أبي عثمان النهدي عن أبي موسى الأشعري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر ، فكان الرجل إذا علا ثنية أو عقبة قال : لا إله إلا الله والله أكبر . فقال النبي -صلى الله عليه وسلم- : "إنكم لا تدعون أصم ولا غائبا " أخرجه الترمذي والنسائي وابن خزيمة جميعا عن محمد بن بشار ، عن مرحوم بن عبد العزيز ، عن أبي نعامة السعدي ، عن أبي عثمان مثله ، إلا أن في لفظ أبي نعامة : فلما أشرفنا كبر الناس تكبيرة رفعوا بها أصواتهم . والباقي سواء .

وترجم البخاري في الصحيح "باب رفع الصوت بالإهلال " وأورد فيه حديث أنس : صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر بالمدينة أربعا ، والعصر بذي الحليفة ركعتين ، وسمعتهم يصرخون بهما جميعا ، وفي المصنف لابن أبي شيبة من طريق المطلب بن عبد الله بن حنطب قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أصواتهم بالتلبية حتى تبح أصواتهم .

وأخرج سعيد بن منصور والبيهقي عن أبي حازم : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أحرموا لم يبلغوا الروحاء حتى تبح أصواتهم .

وأخرج سعيد بن منصور من حديث أبي الزبير عن جابر وعن ابن عمر أنه كان يرفع صوته بالتلبية حتى سمع دوي صوته من الجبال .

وأخرج البيهقي عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فما بلغنا الروحاء حتى سمعنا عامة الناس وقد بحت أصواتهم ، وعن أنس مثله .

فهذه الأخبار كلها تدل على جواز رفع الصوت حتى يبح ، والمعتمد عند الفقهاء حديث أبي موسى المتقدم (ولا بأس برفع الصوت بالتلبية في المساجد الثلاثة ، فإنها مظنة المناسك ، أعني : المسجد الحرام ومسجد الخيف) بمنى (ومسجد الميقات) الذي يحرم (وأما سائر المساجد فلا بأس فيها بالتلبية من غير رفع صوت) بحيث يسمع نفسه ومن يليه .

قال الطبري في المناسك : رفع الصوت عندنا بالتلبية مشروع في المساجد وغيرها . وقال مالك : لا يرفع الصوت بها في مساجد الجماعات ، بل يسمع نفسه ومن يليه إلا في مسجد منى والمسجد الحرام ، فإنه يرفع صوته بها فيهما ، وهو قول قديم للشافعي ، وزاد مسجد عرفة ؛ لأن هذه المساجد تختص بالنسك ، ورفع الصوت بها مستحب عند الجمهور ، وأوجبه أهل الظاهر لظاهر الأحاديث المتضمنة له . . أهـ .

وعبارة الرافعي في الشرح : ويستحب الإتيان بها في مسجد مكة وهو المسجد الحرام ومسجد الخيف بمنى ومسجد إبراهيم بعرفة ، فإنها مواضع النسك ، وفي سائر المساجد قولان : القديم لا يلبي فيها حذرا من التشويش على المتعبدين والمصلين ، بخلاف المساجد الثلاثة ، فإن التلبية معهودة فيها ، ويروى هذا عن مالك . والجديد أنه يلبي فيها كسائر المساجد ، ويدل عليه إطلاق الأخبار الواردة في التلبية ، فإنها لا تفرق في موضع وموضع ، وهذا الخلاف أورده الأكثرون في أصل التلبية ، فإن استحببناه استحببنا رفع الصوت ، وإلا فلا ، وجعل إمام الحرمين الخلاف في أنها هل يستحب فيها رفع الصوت بالتلبية ؟ ثم قال : إن لم يؤمر برفع الصوت بالتلبية في سائر المساجد ، ففي الرفع في المساجد الثلاثة وجهان ، وهل تستحب التلبية في طواف القدوم والسعي بعده ؟ فيه قولان : الجديد أنه لا يستحب ؛ لأن فيها أدعية وأذكارا خاصة ، فصار كطواف الإفاضة والوداع . والقديم أنه يستحب ، ولكن لا يجهر به ، بخلاف طواف الإفاضة ، فإن هناك شرع في أسباب التحلل فانقطعت التلبية (وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أعجبه شيء قال : لبيك إن العيش عيش الآخرة ) .

قال العراقي : رواه الشافعي في المسند من حديث مجاهد مرسلا بنحوه ، وللحاكم وصححه من حديث ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف بعرفات فلما قال : لبيك اللهم لبيك قال إنما الخير خير الآخرة . . أهـ .

قلت : رواه من حديث عكرمة عن ابن عباس ، ورواه كذلك ابن خزيمة والبيهقي ، ورواه سعيد بن منصور من حديث عكرمة مرسلا قال : نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى من حوله وهو واقف بعرفة فقال فذكره . وأما الشافعي فإنه رواه في [ ص: 340 ] المسند عن سعيد بن سالم ، عن ابن جريج ، عن حميد الأعرج ، عن مجاهد قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يظهر من التلبية : لبيك اللهم لبيك . . . الحديث . قال : حتى إذا كان يوم والناس يصرفون عنه كأنه أعجبه ما هو فيه فزاد فيها : لبيك إن العيش عيش الآخرة .

كذا في تخريج الحافظ .

وأخرج أبو ذر الهروي في مناسكه من حديث أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أحرم من ذي الحليفة ، فلما انبعثت به راحلته لبى وتحته قطيفة تساوي درهمين ، فلما رأى كثرة الناس رأيته تواضع في رحله وقال : لا عيش إلا عيش الآخرة .




الخدمات العلمية