الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقد أثنى الله عز وجل على عباده في مواضع على أعمالهم ، وهو خالقها ، وفاطر القدرة عليها نحو قوله تعالى نعم العبد إنه أواب إلى غير ذلك .

وليقل القابض في دعائه : طهر الله قلبك في قلوب الأبرار وزكى عملك في عمل الأخيار وصلى على روحك في أرواح الشهداء وقد قال صلى الله عليه وسلم : من أسدى إليكم معروفا فكافئوه ، فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه ومن تمام الشكر أن يستر عيوب العطاء إن كان فيه عيب ولا يحقره ولا يذمه ولا يعيره بالمنع إذا منع ويفخم عند نفسه وعند الناس صنيعه .

فوظيفة المعطي الاستصغار ، ووظيفة القابض تقلد المنة والاستعظام وعلى كل عبد القيام بحقه وذلك لا تناقض فيه ؛ إذ موجبات التصغير والتعظيم تتعارض .

والنافع للمعطي ملاحظة أسباب التصغير ويضره خلافه والآخذ بالعكس منه وكل ذلك لا يناقض رؤية النعمة من الله عز وجل فإن من لا يرى الواسطة واسطة فقد جهل وإنما المنكر أن يرى الواسطة أصلا .

التالي السابق


(وقد أثنى الله عز وجل على عباده في مواضع على أعمالهم، وهو خالقها، وفاطر القدرة عليها) أي: إن الله تعالى يشهد نفسه في العطاء، ثم قد أثنى على عبده وشكر له في الإعطاء (نحو قوله تعالى) في مقام الثناء: ( نعم العبد إنه أواب ) ، وهو مبالغة، من آب أوبا: رجع إليه، أي: كثير الرجوع إلى الله تعالى في أحواله كلها، (إلى غير ذلك) من الآيات القرآنية، (وليقل القابض في) وفي بعض النسخ: وليكن من (دعائه: طهر الله قلبك في قلوب الأبرار وزكى عملك في عمل الأخيار) كذا في النسخ، وفي القوت: في أعمال الأخيار، وهو المناسب لما قبله وما بعده، (وصلى على روحك في أرواح الشهداء) ، فهذا هو شكر الناس المأمور به، وهو دعاء وثناء، وكلمة "في" في المواضع الثلاثة بمعنى "مع"، وفي هذه الجمل الثلاثة مناسبة لحال المعطي؛ حيث طهر ماله بإخراج ما أوجب الله فيه إلى موضعه، فدعا له بتطهير القلب كما طهر قلوب أبراره، ولما زكى ماله دعا له بتزكية الأعمال، أي: تنميتها كما زكى أعمال أخياره، وفي الجملة الثالثة إشارة إلى الآية: وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم وفي الصحيح: قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم صل على آل أبي أوفى. وقد اختلف العلماء في جواز ذلك لغيره صلى الله عليه وسلم، الأكثرون على المنع .

قال البخاري في الصحيح: باب صلاة الإمام ودعائه لأهل الصدقة، قال الشارح: المراد من الصلاة معناها اللغوي، وهو الدعاء، وعطف الدعاء على الصلاة ليبين أن لفظ الصلاة ليس بحتم بل غيره من الدعاء ينزل منزلته .

قال ابن المنير: ويؤيده ما في حديث وائل بن حجر عند النسائي أنه صلى الله عليه وسلم قال في رجل بعث بناقة حسنة في الزكاة: اللهم بارك فيه في إبله.

وروى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن السدي في قوله: وصل عليهم أي: ادع لهم، وأما قوله صلى الله عليه وسلم: اللهم صل على آل أبي أوفى. فهذا من خصائصه صلى الله عليه وسلم؛ إذ يكره لنا كراهة التنزيه الذي عليه الأكثرون، كما قاله النووي: إفراد الصلاة على غير الأنبياء؛ لأنه صار شعارا لهم إذا ذكروا فلا يلحق بهم غيرهم، وإن كان المعنى صحيحا كما لا يقال: محمد عز وجل، وإن كان عزيزا جليلا، وإن قال: تقبل الله منك أو آجرك الله فيما أعطيت وبارك لك فيما أبقيت، أو قال: بارك الله فيك، أو قال: جزاك الله خيرا، فقد أثنى ودعا. فقد أخرج الترمذي وقال: حسن صحيح غريب، وابن السني في اليوم والليلة، وابن حبان من حديث أسامة بن زيد مرفوعا: من صنع إليه معروف، فقال لفاعله: جزاك الله خيرا، فقد أبلغ الثناء. معنى ذلك أنه اعترف بتقصيره وعجز عن جزائه ففوضه إلى الله تعالى ليجزيه الجزاء الأوفى؛ فلذلك كان مبلغا في الثناء، (وقد قال صلى الله عليه وسلم: من أسدى إليكم معروفا فكافئوه، فإن لم تستطيعوا فادعوا له حتى تروا أنكم قد كافأتموه) هكذا أورده صاحب القوت، وقال العراقي: رواه [ ص: 157 ] أبو داود والنسائي من حديث ابن عمر بإسناد صحيح بلفظ: من صنع. اهـ .

قلت: وأخرج البيهقي من حديث أبي هريرة بلفظ: من صنع إليه معروف فليكافئ به، فإن لم يستطع فليذكره؛ فمن ذكره فقد شكره. وأما لفظ: من أسدى، فهو من حديث آخر أخرجه الشيرازي في الألقاب عن ابن عباس رفعه: من أسدى إلى قوم نعمة فلم يشكروها له فدعا عليهم استجيب. (ومن تمام الشكر) للناس (أن يستر عيوب العطاء إن كان فيه عيب) في نفسه (ولا يحقره ولا يذمه) فإن تحقير العطاء وتعييبه ينشأ عن جهل وذعارة وسوء نظر في النعمة، (ولا يعيره) أي: المعطي (عند المنع إذا منع) ولا يعيبه عند القبض إذا قبض؛ فإن المانع والقابض هو الله كما أن المانح والمعطي هو الله، (ويفخم) أي: يعظم (عند نفسه وعند الناس صنيعه) ، وذلك تأويل الخبر السابق: من لم يشكر الناس لم يشكر الله؛ إذ فيه التخلق بأخلاق المنعم؛ لأنه أنعم عليهم ثم شكر لهم كرما منه، وهذا هو الشكر للناس، وأما شكر الله سبحانه على العطاء، فهو اعتقاد المعرفة أنه من الله تعالى، لا شريك له فيها، والعمل بطاعته بها، (فوظيفة المعطي) كما سبق (الاستصغار، ووظيفة القابض تقلد المنة والاستعظام) لما أعطى، (وعلى كل عبد منهم) من المعطين والقابضين (القيام بحقه) الذي ألزمه (وذلك لا تناقض فيه؛ إذ موجبات التصغير والتعظيم لا تتعارض) ؛ لأنها باختلاف النسب والاعتبارات التي ذكرناها آنفا، (والنافع للمعطي ملاحظة أسباب التصغير) ليعرف أنه ليست له في ذلك منة، وما يعطيه قليل وحقير بالنسبة إلى ما يمسكه، (ويضره خلافه) ، فإنه لو استعظم عطاءه دخلته الرعونة في النفس والعلو على أخيه المسلم، ونسبة المنة لنفسه (والآخذ بالعكس منه) فإنه ينفعه ملاحظة أسباب التعظيم ويضره التحقير، (وكل ذلك لا يناقض رؤية النعمة من الله عز وجل فإن من لا يرى الواسطة) في النعمة (واسطة فقد جهل) وأخطأ، (وإنما المنكر) عند الموقنين (أن يرى الواسطة أصلا) ، فحينئذ يسقط شهود رؤية النعمة من الله عز وجل، فهذا مضر للإيمان ومسقط كمال توحيد الواحد المنان .




الخدمات العلمية