الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
العاشر التبري ، وأعني به أن يتبرأ من حوله وقوته والالتفات إلى نفسه بين الرضا والتزكية فإذا تلا بآيات الوعد والمدح للصالحين فلا يشهد نفسه عند ذلك ، بل يشهد الموقنين والصديقين فيها ويتشوف إلى أن يلحقه الله عز وجل بهم وإذا تلا آيات المقت ، وذم العصاة والمقصرين شهد على نفسه هناك وقدر أنه المخاطب خوفا وإشفاقا ولذلك كان ابن عمر رضي الله عنهما يقول اللهم إني أستغفرك لظلمي وكفري ، فقيل له هذا الظلم فما بال الكفر فتلا قوله عز وجل إن الإنسان لظلوم كفار وقيل ليوسف بن أسباط : إذا قرأت القرآن بماذا تدعو ؟ فقال بماذا : أدعو أستغفر الله عز وجل من تقصيري سبعين مرة فإذا رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كان رؤيته سبب قربه فإن من شهد البعد في القرب لطف به في الخوف حتى يسوقه الخوف إلى درجة أخرى في القرب وراءها ، ومن شهد القرب في البعد مكر به بالأمن الذي يفضيه إلى درجة أخرى في البعد أسفل مما هو فيه ، ومهما كان مشاهدا نفسه بعين الرضا صار محجوبا بنفسه فإذا جاوز حد الالتفات إلى نفسه ، ولم يشاهد إلا الله تعالى في قراءته كشف له سر الملكوت .

قال أبو سليمان الداراني رضي الله عنه وعد ابن ثوبان أخا له أن يفطر عنده فأبطأ عليه حتى طلع الفجر فلقيه أخوه من الغد ، فقال له : وعدتني أنك تفطر عندي فأخلفت فقال : لولا ميعادي معك ما أخبرتك الذي حبسني عنك إني لما صليت العتمة قلت : أوتر قبل أن أجيئك ; لأني لا آمن ما يحدث من الموت فلما كنت في الدعاء من الوتر ، رفعت إلي روضة خضراء فيها أنواع الزهر من الجنة فما زلت أنظر إليها حتى أصبحت .

وهذه المكاشفات لا تكون إلا بعد التبري عن النفس ، وعدم الالتفات إليها ، وإلى هواها ثم تخصص هذه المكاشفات بحسب أحوال المكاشف فحيث يتلو آيات الرجاء ويغلب على حاله الاستبشار تنكشف له صورة الجنة فيشاهدها كأنه يراها عيانا وإن غلب عليه الخوف كوشف بالنار حتى يرى أنواع عذابها وذلك لأن كلام الله عز وجل يشتمل على السهل اللطيف والشديد العسوف والمرجو والمخوف ، وذلك بحسب أوصافه إذ منها الرحمة واللطف والانتقام والبطش فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات يتقلب في اختلاف الحالات وبحسب كل حالة منها يستعد للمكاشفة بأمر يناسب تلك الحالة ، ويقاربها إذ يستحيل أن يكون حال المستمع واحدا ، والمسموع مختلفا إذ فيه كلام راض ، وكلام غضبان ، وكلام منعم ، وكلام منتقم ، وكلام جبار متكبر لا يبالي وكلام حنان متعطف لا يهمل .

التالي السابق


(العاشر التبري، وأعني) به (أن يتبرأ) أي يظهر البراءة (من حوله وقوته والالتفات إليه بعين الرضا والتزكية) ، ولا يتحقق التولي لمولاه إلا بهذا [ ص: 525 ] التبري فإنه ما دام يثبت لنفسه حولا، أو يضيف إليها قوة، أو ينظر إليها بعين استحسان، فهو قاصر الدرجة عن مقام محبة الحق، ولا يجتمع الحبان في قلب، (وإذا) كان التالي خائفا ناصحا لنفسه، وللخلق سليم القلب، و (تلا آيات الوعد والمدح) ، ومحاسن الوصف (للصالحين) ، ومقامات المقربين، (فلا يشهد نفسه) هناك، ولا يراها مكانا لذلك (عند ذلك، بل يشهد الموقنين والصديقين فيها) ، وينظر إليهم منها سلامة للقلب، ونصحا للخلق، (ويتشوف أن يلحقه الله تعالى بهم) ، ويرقيه إلى مقاماتهم .

(وإذا تلا آيات المقت، وذم العصاة والمقصرين) أي: الآي الممقوت أهلها المتهدد عليها المذموم وصفها من مقامات الغافلين، وأحوال الخاطئين، (شهد نفسه هناك وقدر أنه) هو (المخاطب) المقصود بذلك (خوفا) منه، (وإشفاقا) فبهذه المشاهدة يرجو للخلق، ويخاف على نفسه، ومن هذه الملاحظة يسلم قلبه للعباد، ويمقت نفسه، (ولذلك كان عمر) بن الخطاب (رضي الله عنه يقول) في دعائه: (اللهم إني أستغفرك لظلمي وكفري، فقيل له) : يا أمير المؤمنين (هذا الظلم فما بال الكفر فتلا قوله عز وجل إن الإنسان لظلوم كفار ) نقله صاحب القوت .

(وقيل ليوسف بن أسباط: إذا قرأت القرآن بماذا تدعو؟ فقال: أدعو أستغفر الله عز وجل من تقصيري سبعين مرة ) ، نقله صاحب القوت، ولم أره في الحلية في ترجمته، وتعيين العدد بالسبعين مرة اتباعا لما ورد في الخبرإنه ليغان على قلبي، وإني أستغفر الله كل يوم سبعين مرة، (فإذا رأى نفسه بصورة التقصير في القراءة كان رؤيته سبب قربه) ، ومشاهدته على قدر مقامه في رؤيته، (فإن من أشهد البعد في القرب لطف به في الخوف) .

وفي نسخة لطف له بالخوف (حتى يسوقه إلى درجة أخرى في القرب وراءه، ومن أشهد القرب في البعد مكر به بالأمر الذي يفضي به إلى درجة أخرى في البعد أسفل مما هو فيه، ومهما كان مشاهدا نفسه بعين الرضا صار محجوبا بنفسه) ، أي إن قلب هذان المعنيان على عبد حتى يشهد نفسه في المدح والوصف، ويشهد غيره في الذم والمقت، انقلب قلبه عن وجهة الصادقين، وتنكب بقصده عن صراط الخائفين، فهلك وأهلك فهذا هو المحجوب بنفسه، وهلاكه متحقق، وإهلاكه لغيره; لأنه يرى أنه وصل، وما شم رائحة الوصول، (فإذا جاوز حد الالتفات إلى نفسه، ولم يشاهد إلا الله تعالى في قراءته كشف له سر الملكوت) .

وفي نسخة انكشف له الملكوت، قال المصنف في مشكاة الأنوار: العين عينان ظاهرة، وباطنة الظاهرة من عالم الحس، والمشاهدة والباطنة من عالم الملكوت، ولكل عين من العينين شمس ونور عنده تصير كاملة الإبصار إحداهما ظاهرة، والأخرى باطنة، والظاهرة من عالم الشهادة، وهي الشمس المحسوسة والباطنة من عالم الملكوت، وهو القرآن وكتب الله المنزلة، ومهما انكشف لك هذا انكشافا تاما، فقد انفتح لك أول باب من أبواب الملكوت .

وفي هذا العالم عجائب تستحقر إليها بالإضافة إلى عالم الشهادة، ومن لم يسافر إلى هذا العالم، وقعد به القصور في حضيض عالم الشهادة فهو بهيمة بعد محروم عن خاصة الإنسانية، بل أضل من البهيمة إذ لم تستعد البهيمة أجنحة الطيران إلى هذا العالم، ثم قال: فأما العبد فلا تفتح له أبواب الملكوت، ولا يصير ملكوتيا إلا وتبدل في حقه الأرض غير الأرض، والسماوات، ويصير كل ما هو داخل تحت الحس والخيال أرضه، ومن جملتها السماوات، وكل ما ارتفع من الحس سماؤه، وهذا هو المعراج الأول لكل سالك ابتداء سفره إلى قرب الحضرة الربوبية، والأنبياء إذا بلغ معراجهم إلى عالم الملكوت، فقد بلغوا المبلغ الأقصى، وأشرفوا على جملة من علوم الغيب، ومن اطلع على كنه حقيقته، انكشفت له حقائق أمثلة القرآن على يسر، والله أعلم .

(وقال سليمان بن أبي سليمان الداراني ) رحمه الله تعالى: (وعد ابن ثوبان) بالثاء المثلثة، والموحدة هكذا هو في نسخ الكتاب، ولعله ابن بويان بضم الموحدة والياء التحتية، وهو أبو الحسن محمد بن أحمد بن عثمان بن بويان القاري، رواية خلف بن هشام البزي أحد القراء المشهورين، (أخا له أن يفطر عنده فأبطأ عليه حتى طلع الفجر فلقيه أخوه من الغد، فقال له: وعدتني أنك تفطر عندي) أمس، (فأخلفت) الموعد، (فقال: لولا ميعادي معك) ، وفي نسخة لولا ميعادك، (ما أخبرتك بالذي حبسني عنك إني لما صليت العتمة) أي: العشاء الأخيرة، (قلت: أوتر قبل أن أجيئك; لأني ما آمن) على نفسي (ما يحدث من [ ص: 526 ] الموت فلما كنت في الدعاء من الوتر، رفعت لي روضة خضراء فيها أنواع الزهر من الجنة فما زلت أنظر إليها حتى أصبحت) ، هكذا نقله صاحب القوت .

(وهذه المكاشفات لا تكون) ، ولا تتحقق (إلا بعد التبري عن) مذمات (النفس، وعدم الالتفات إليها، وإلى ثوابها) ، وفي نسخة وإلى هواها، (ثم تخصص هذه المكاشفات بحسب أحوال المكاشف) على صيغة اسم المفعول (فحيث يتلو آيات الرجاء) كقوله تعالى: إن الله غفور رحيم وقوله تعالى: لا تقنطوا من رحمة الله وما أشبه ذلك (ويغلب على حاله الاستبشار) ، والفرح (تنكشف له صورة الجنة) ، وتمثل بين يديه (فيشاهدها كأنه يراها عيانا) ، أي: معاينة في عالم الشهادة، (وإن غلب عليها الخوف) عند تلاوته آيات العذاب، (كوشف بالنار) فتمثل بين يديه (حتى يرى أنواع عذابها) من شعل النار، واللهيب والأفاعي (وذلك لأن كلام الله عز وجل يشتمل على السهل اللطيف) الظاهر المعنى (والشديد العسوف) بما فيه من سوق القهر والتهديد، (والمرجو والمخوف، وذلك بحسب أوصافه إذ منها الرحمة واللطف والانتقام والبطش) ، وبمعاني كلامه تعرف معاني صفاته وأفعاله وأحكامه، ومعاني كلامه من معاني أوصافه وأخلاقه .

(فبحسب مشاهدة الكلمات والصفات يتقلب القلب في اختلاف الحالات) ما بين رجاء وخوف، (وبحسب كل حالة منها يستعد للمكاشفة بأمر يناسب تلك الحالة، ويقاربها) ومن وجد عنده الاستعداد، ولم يطر إلى مشاهدة عالم الملكوت فهو أخس حالا من البهيمة، كما تقدم (إذ يستحيل أن يكون حال المستمع واحدا، والمسموع مختلفا إذ فيه كلام راض، وكلام غضبان، وكلام منعم، وكلام منتقم، وكلام جبار متكبر لا يبالي) أحدا، (وكلام حنان متعطف) يمهل و (لا يهمل) ، وبالجملة فمن لم يصلح أن يعرفه كعلمه بنفسه لم يصلح أن يعرف كنه كلامه، فأعلم الخلق بمعاني الكلام أعرفهم بمعاني الصفات، وأعرف العباد بمعاني الأوصاف والأخلاق أعرفهم بسرائر الخطاب




الخدمات العلمية