الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فصل في سنن الرجوع من السفر .

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل من غزو أو حج ، أو عمرة ، يكبر على رأس كل شرف من الأرض ثلاث تكبيرات ويقول : لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك ، وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون ، صدق الله وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده وفي بعض الروايات ، و كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون فينبغي أن يستعمل هذه السنة في رجوعه .

وإذا أشرف على مدينته يحرك الدابة ويقول : اللهم اجعل لنا بها قرارا ، ورزقا حسنا .

ثم ليرسل إلى أهله من يخبرهم بقدومه كي لا يقدم عليهم بغتة فذلك هو السنة ولا ينبغي أن يطرق أهله ليلا فإذا دخل البلد فليقصد المسجد أولا وليصل ركعتين فهو السنة كذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا دخل بيته قال : توبا توبا لربنا أوبا ، لا يغادر علينا حوبا فإذا استقر في منزله فلا ينبغي أن ينسى ما أنعم الله به عليه من زيارة بيته وحرمه وقبر نبيه صلى الله عليه وسلم فيكفر تلك النعمة بأن يعود إلى الغفلة واللهو والخوض في المعاصي فما ذلك علامة الحج المبرور ، بل علامته أن يعود زاهدا في الدنيا راغبا في الآخرة متأهبا للقاء رب البيت بعد لقاء البيت .

التالي السابق


(فصل في سنن الرجوع من السفر ) .

(كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قفل) أي: رجع (من غزو) أي: جهاد (أو حج، أو عمرة، أو غيره يكبر على كل شرف) أي: مرتفع (من الأرض ثلاث تكبيرات) ، أي يقول: الله أكبر ثلاث مرات، (ويقول: لا إله إلا الله وحده لاشريك له له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيء قدير، آيبون) أي: راجعون (تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون، صدق الله وعده، ونصر عبده، وهزم الأحزاب وحده) هذا الحديث فيه فوائد:

الأولى: أخرجه البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي من طريق مالك، وأخرج مسلم والترمذي من طريق أيوب السختياني، ومسلم والنسائي من طريق عبيد الله بن عمر، ومسلم وحده من طريق الضحاك بن عثمان، كلهم عن نافع، عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قفل من غزو، أو حج، أو عمرة. .. فساقوه مثل سياق المصنف إلا أنه عندهم: ثم يقول بدل ويقول: ولفظ عبيد الله كان إذا قفل من الجيوش، أو السرايا، أو الحج إذا أوفى على ثنية أو فدفد كبر ثلاثا، والباقي مثله وفي حديث أيوب عند مسلم التكبير مرتين، وفي رواية الترمذي بدل ساجدون سائحون، وعنده أيضا: فعلا فدفدا من الأرض أو شرفا، وقال: حسن صحيح .

الثانية: كان إذا قفل من القفول هو الرجوع من السفر ولا يستعمل [ ص: 430 ] إلا في انتهاء السفر، وإنما سمي المسافرون قافلة تفاؤلا لهم بالقفول والسلامة، والشرف محركة المكان المرتفع، الفدفد كجعفر المكان الذي فيه ارتفاع وغلظ، ورجحه النووي وغيره، وقيل: الأرض المستوية قاله الجوهري، وقيل: الفلاة التي لا شيء فيها ذكره صاحب المشارق، وقيل: غليظ الأرض ذات الحصى، والمراد بالأحزاب هنا الكفار الذين اجتمعوا يوم الخندق، وتحزبوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأرسل الله تعالى عليهم ريحا وجنودا لم يروها، قال النووي: هذا هو المشهور، وقيل: المراد أحزاب الكفر في جميع الأيام والمواطن نقله القاضي عياض.

الثالثة: فيه استحباب الإتيان بهذا الذكر في القفول من سفر الغزو والحج والعمرة، وهل يختص ذلك بهذه الأسفار أو يتعدى إلى كل سفر طاعة كالرباط وطلب العلم وصلة الرحم ؟ أو يتعدى إلى السفر المباح أيضا كالنزهة ؟ أو يستمر في كل سفر ولو كان محرما ؟ يحتمل أوجها أحدها الاختصاص وذلك لأن هذا ذكر مخصوص شرع بأثر هذه العبادات المخصوصة فلا يتعدى إلى غيرها، والأذكار المخصوصة متعبد بها في لفظها ومحلها ومكانها وزمانها

الثاني أنه يتعدى إلى سائر أسفار الطاعة لكونها في معناها في التقرب بها .

الثالث أنه يتعدى إلى أسفار المباحة أيضا، وعلى هذين الاحتمالين فالتقييد في الحديث إنما هو لكونه صلى الله عليه وسلم لم يكن يسافر لغير المقاصد الثلاثة فقيده بحسب الواقع لا لاختصاص الحكم به .

الرابع تعديه إلى الأسفار المحرمة; لأن مرتكب الحرام أحوج إلى الذكر من غيره; لأن الحسنات يذهبن السيئات، وكلام النووي محتمل فإنه قال في تبويبه في شرح مسلم ما يقول إذا رجع من سفر الحج وغيره مما هو مذكور في الحديث، وهو عمرة والغزو وقد يريد غيره مطلقا، وقال العراقي في شرح الترمذي: سواء فيه السفر لحج أو عمرة أو غزو كما في الحديث، أو لغير ذلك من طلب علم وتجارة وغيرهما اهـ .

فمثل بطلب العلم وهو من الطاعات، وبالتجارات وهي من المباحات، ولم يمثل المحرم لكنه مندرج في إطلاقه .

الرابعة: الحديث صريح في اختصاص التكبير ثلاثا بحالة كونه على المكان المرتفع، وأما قوله: ويقول، وعند الجماعة ثم يقول: لا إله إلا الله إلخ. . . . فيحتمل الإتيان به، وهو على المكان المرتفع، ويحتمل أن لا يتقيد بذلك، بل إن كان المرتفع واسعا قال فيه، وإن كان ضيقا كمل بقية الذكر بعد انهباطه، ولا يستمر واقفا في المكان المرتفع لتكميله .

الخامسة: قال العراقي في شرح الترمذي: مناسبة التكبير في المكان المرتفع أن الاستعلاء والارتفاع محبوب للنفوس، وفيه ظهور وغلبة على من هو دونه فينبغي لمن تلبس به أن يذكر عند ذلك كبرياء الله، ويشكر له ذلك يستمطر بذلك المزيد مما من به عليه .

السادسة: قوله: آيبون وما بعده خبر مبتدأ محذوف أي: نحن آيبون فإن قلت: ما فائدة الإخبار بالأوب ؟ وهو ظاهر من حالهم فما تحت الإخبار بذلك من الفائدة ؟ قلت: قد يراد أوب مخصوص، وهو الرجوع من المخالفة إلى الطاعة، أو التفاؤل بذلك، أو الإعلام بأن السفر المقصود قد انقضى فهو استبشار بكمال العبادة والفراغ منها، وحصول المقصود والظفر به .

السابعة: قوله: تائبون يحتمل أن يكون إشعارا بحصول التقصير في العبادة فيتوب من ذلك، وهو تواضع وهضم النفس، أو تعليم لمن يقع ذلك منه في سفر الطاعات فيخلطه بما لا يجوز فعله، ويحتمل الإشارة بذلك إلى أن ما كان فيه من طاعة الحج، أو العمرة، أو الغزو قد كفرت ما مضى، فيسأل الله التوبة فيما بعده، وقد تستعمل التوبة في العصمة فيسأل أن لا يقع منه بعده ما يحتاج إلى تكفير وهذا اللفظ وإن كان خيرا فهو في معنى الدعاء، ولو كان إشعارا بأنهم رجعوا بهذه الأوصاف لنصبها على الحال، وهو غير مناسب أيضا لما فيه من تزكية النفس، وإظهار الأعمال .

الثامنة: قوله: ساجدون بعد قوله عابدون من ذكر الخاص بعد العام، وقوله: لربنا يحتمل تعلقه بقوله ساجدون أي نسجد له لا لغيره، ويحتمل أن يكون معمولا مقدما لقوله حامدون أي نحمده دون غيره، إذ هو المنعم بالنعم لا رب سواه .

التاسعة: في قوله آيبون... إلخ دليل على جواز السجع في الدعاء والكلام إذا كان بغير تكلف، والمنهي عنه من ذلك ما كان باستعمال وروية لأنه يشغل عن الإخلاص وأما ما ساقه الطبع، وقذف به قوة الخاطر فمباح في كل شيء، وسيأتي ذلك في الفصل [ ص: 431 ] الثالث من كتاب الدعوات .

العاشرة: مجموع هذا الذكر إنما كان صلى الله عليه وسلم يأتي به عند القفول، وكان يأتي بصدره في الخروج أيضا ففي صحيح مسلم وغيره، عن ابن عمران: النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا استوى على بعيره خارجا إلى سفر كبر ثلاثا، ثم قال: سبحان الذي إلى آخر الدعاء الذي ذكرناه أولا، وفي آخره، وإذا رجع قالهن وزاد: آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون، (وفي بعض الروايات، و كل شيء هالك إلا وجهه له الحكم وإليه ترجعون ) ، قال العراقي: رواه المحاملي في الدعاء بإسناد جيد (فينبغي أن يستعمل هذه السنة في رجوعه) إلى وطنه، (وإذا أشرف على مدينته) التي بها مسكنه (فليحرك دابته) أي: يسرع بها في السير دون إجهاد (وليقل: اللهم اجعل لنا بها قرارا، ورزقا حسنا) ، ولو قال: اللهم أرني خيرها وخير ما فيها اكفني شرها، وشر ما فيها كان حسنا، (ثم يرسل إلى أهله من يخبرهم بقدومه ولا يقدم عليهم بغتة) أي: فجأة، (فذلك هو السنة) قال العراقي: لم أجد فيه ذكر الإرسال، وفي الصحيحين من حديث جابر كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فلما قدمنا المدينة، ذهبنا لندخل، فقال: أمهلوا حتى ندخل ليلا أي: مساء، كي تتمشط الشعثة وتستحد المغيبة (ولا ينبغي أن يطرق أهله ليلا ) ، بل الأولى أن يبات خارجا في البلد إن أمكن، أو في بيوت بعض الأصحاب حتى يصبح فيأتيهم بعد الإخبار (فإذا دخل البلد فيقصد المسجد أولا ) ، المراد به مسجد الحي، (وليصل فيه ركعتين فهي السنة كذلك كان يفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم) ، تقدم ذلك في كتاب أسرار الصلاة، (فإذا دخل بيته فليقل: توبا توبا لربنا، أوبا لا يغادر علينا حوبا) أي: إثما (فإذا استقر في منزله فلا ينبغي أن ينسى ما أنعم الله به عليه من زيارة بيته) المكرم، (وحرمه) المعظم، (وقبر نبيه صلى الله عليه وسلم) ، ووفقه لتحصيل كل من ذلك (فيكفر تلك النعمة بأن يعود إلى الغفلة) ، عن الحضور والانتباه (واللهو) واللعب (والخوض في المعاصي) ، وفيما لا يعنيه (فما ذلك من علامة الحج المبرور، بل من علامته أن يعود زاهدا في الدنيا) أي: مقللا منها (راغبا في الآخرة) أي: في أمورها، وهذا مروي عن الحسن البصري، وفي معناه قول غيره: علامة بر الحج أن يزداد بعده خيرا ولا يغادر المعاصي بعد رجوعه، وقيل في تفسير الحج المبرور غير ما ذكر كما سيأتي، وزاد المصنف (متأهبا) أي: متهيئا (للقاء رب البيت بعد لقاء البيت) إذ هو المقصود الأعظم من هذه العبادة، بل العبادات كلها إنما يراد بها الوصول إلى الله تعالى، والله أعلم .




الخدمات العلمية