الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
بيان فضيلة الصدقة .

من الأخبار .

قوله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا ولو بتمرة ؛ فإنها تسد من الجائع وتطفئ ، الخطيئة كما يطفئ الماء النار وقال صلى الله عليه وسلم اتقوا النار ولو بشق تمرة فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة وقال صلى الله عليه وسلم : ما من عبد مسلم يتصدق بصدقة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا طيبا ، إلا كان الله آخذها بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فصيله حتى تبلغ التمرة مثل أحد وقال صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها ، ثم انظر إلى أهل بيت من جيرانك فأصبهم منه بمعروف وقال صلى الله عليه وسلم : ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله عز وجل الخلافة على تركته وقال صلى الله عليه وسلم : كل امرئ في ظل صدقته حتى يقضى بين الناس وقال صلى الله عليه وسلم : الصدقة تسد سبعين بابا من الشر وقال صلى الله عليه وسلم : صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الذي أعطى من سعة بأفضل أجرا من الذي يقبل من حاجة ولعل المراد به الذي يقصد من دفع حاجته التفرغ للدين فيكون مساويا للمعطي الذي يقصد بإعطائه عمارة دينه .

وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الصدقة أفضل قال : أن تصدق وأنت صحيح تأمل البقاء وتخشى الفاقة ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا وقد كان لفلان وقد قال صلى الله عليه وسلم يوما لأصحابه : تصدقوا ، فقال رجل : إن عندي دينارا ، فقال : أنفقه على نفسك ، فقال : إن عندي آخر ، قال : أنفقه على زوجتك قال : إن عندي آخر ، قال : أنفقه على ولدك ، قال : إن عندي آخر ، قال : أنفقه على خادمك ، قال : إن عندي آخر ، قال صلى الله عليه وسلم : أنت أبصر به

التالي السابق


(بيان فضيلة الصدقة من الأخبار) المروية (قوله صلى الله عليه وسلم: تصدقوا ولو بتمرة؛ فإنها تسد من الجائع، وتطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار) .

قال العراقي: رواه ابن المبارك في الزهد من حديث عكرمة مرسلا، ولأحمد من حديث عائشة بسند حسن: اشتر من النار ولو بشق تمرة؛ فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان. وللبراز وأبي يعلى من حديث أبي بكر: اتقوا النار ولو بشق تمرة؛ فإنها تقيم العوج وتدفع ميتة السوء، وتقع من الجائع موقعها من الشبعان، وإسناده ضعيف. وللترمذي وصححه وللنسائي في الكبراء وابن ماجه من حديث معاذ: والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار. اهـ .

(وقال صلى الله عليه وسلم: اتقوا النار) أي: اجعلوا بينكم وبينها وقاية بالصدقة، (ولو) كان الاتقاء (بشق تمرة) واحدة، فإنه يفيد، فقد يسد الرمق سيما للطفل، والشق بالكسر النصف منها أو جانبها، فلا يحقر الإنسان ما يتصدق به وقاية من النار، فلو هنا للتعليل كما في المغني، (فإن لم تجدوا فبكلمة طيبة) يرده بها، ويطيب قلبه؛ ليكون ذلك سببا لنجاته من النار .

قال العراقي: أخرجاه من حديث عدي بن حاتم. اهـ .

قلت: ورواه أيضا النسائي ورواه أحمد عن عائشة والبزار والطبراني في الأوسط والضياء عن أنس والبزار عن النعمان بن بشير وعن أبي هريرة، والطبراني في الكبير عن ابن عباس وأبي أمامة، والحديث متواتر، وفي حديث آخر: أن الكلمة الطيبة صدقة، وكل تسبيحة صدقة، وكل تهليلة صدقة. رواه مسلم.

وأخرج مسلم أيضا عن عدي بن حاتم مرفوعا: من استطاع منكم أن يستتر من النار ولو بشق تمرة فليفعل. .

(وقال صلى الله عليه وسلم: ما من عبد يتصدق بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيبا، إلا كان الله عز وجل هو يأخذها بيمينه فيربيها له كما يربي أحدكم فصيله أو فلوه) على مثال: عدو، المهر حين يفطم (حتى تبلغ التمرة مثل أحد) .

قال العراقي: رواه البخاري تعليقا ومسلم والترمذي والنسائي في الكبراء، واللفظ له، وابن ماجه من حديث أبي هريرة اهـ .

قلت: أخرجه البخاري معلقا في كتاب التوحيد بلفظ: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يصعد إلى الله إلا طيب. وأخرجه في كتاب الزكاة موصولا بلفظ: من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإن الله يتقبلها بيمينه ثم يربيها لصاحبه كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون مثل الجبل. وأخرجه مسلم بلفظ: ما تصدق أحد بصدقة من طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، إلا أخذها الرحمن بيمينه، وإن كانت ثمرة فتربو في كف الرحمن حتى تكون أعظم من الجبل، كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله. وفي لفظ آخر: لا يتصدق أحد بتمرة من كسب طيب إلا أخذها الله بيمينه فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو قلوصه، حتى يكون مثل الجبال أو أعظم. وفي رواية: من الكسب الطيب، فيضعها في حقها، وأخرجه البزار من حديث عائشة بلفظ: فيتلقاها الرحمن بيده. وعند الترمذي من حديث أبي هريرة: حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد. وقوله: بيمينه، قال الخطابي: ذكر البيهقي؛ لأنها في العرف لما عز والآخر لما هان، وقال ابن اللبان: نسبة الأيدي إليه تعالى استعارة لحقائق أنوار علوية يظهر عنها تصرفه وبطشه بدأ وإعادة، وتلك الأنوار متفاوتة في روح القرب، وعلى حسب تفاوتها وسعة دوائرها تكون رتبة التخصيص لما ظهر عنها، فنور الفضل باليمين ونور العدل باليد الأخرى، والله تعالى منزه عن الجارحة اهـ .

وفي [ ص: 166 ] فتح الباري: إنما ضرب المثل بالمهر؛ لأنه يزيد زيادة بينة، ولأن الصدقة نتاج العمل، وأحوج ما يكون النتاج إلى التربية إذا كان فطيما، فإذا أحسن العناية به انتهى إلى حد الكمال، وكذلك الصدقة، فإن العبد إذا تصدق من كسب طيب لا يزال نظر الله إليها يكسبها نعت الكمال حتى تنتهي إلى نصاب يقع المناسبة بينه وبين ما قدم نسبة ما بين التمرة إلى الجبل. اهـ .

وفي كتاب الشريعة: اعلم أن الطيب من الصدقات هو أن تتصدق بما تملكه عن طيب نفس مؤدى أمانة يسميها الشارع صدقة بلسان الظاهر، وتكون يدك يد الله عند الإعطاء؛ ولهذا قلنا: أمانة، فإن أمثال هذا لا ينتفع بها خالقها، وإنما يستحقها من خلقت من أجله، وهو المخلوق، فهي عند الله من الله أمانة لهذا العبد يؤديها إليه، إما منه إليه وإما على يد عبد آخر، هذا أطيب الصدقات، فإذا حصلت في يد المتصدق عليه، أخذها الرحمن بيمينه ثم أعطاه إياها، فمثل هذه الصدقة إذا أكلها المتصدق عليه أثمرت له نورا، ويراها في الآخرة في ميزان من أعطاه، فيقال له: هذه ثمرة صدقتك فقد عادت بركتها عليك وعلى من تصدقت عليه، فإن صدقتك على زيد هي عين صدقتك على نفسك، فإن خيرها عليك يعود، وأفضل الصدقات ما يتصدق به الإنسان على نفسه، فيحضر هذا المتصدق على أكمل الوجوه في نفسه، فمثل هذه الصدقة لا يقال لمعطيها يوم القيامة: من أين تصدقت؟ ولا لمن أعطيت؟ فإنه بهذه المثابة، فإن كان الآخذ مثله في هذه المرتبة تساويا في السعادة، وفضل المتصدق بدرجة واحدة لا غير، وإن لم يكن بهذه المثابة فيكون بحيث الصفة التي يقيمه الله فيها، فإن كانت الصدقة صدقة تطوع فهي منة إلهية كونية، فإن كانت زكاة فرض فهي منة إلهية، فإن كانت نذرا فهي إلهية كونية قهرية، فإن النذر يستخرج به من البخيل، وإن كانت هذه الأعطية هدية فما هو من هذا الباب، فإنه مخصوص بإعطاء ما هو صدقة لا غير، فتكبر هذه الصدقة في كف الرحمن حسا ومعنى، فالحس منها من حيث ما هي محسوسة فيجدها في الجنة حسية المشهد مرئية بالبصر، والمعنى منها من حيث ما قام به من الكسب الحلال، والتقوى فيه، والمسارعة بها، وطيب النفس بها عند خروجها، ومشاهدته ما ذكرناه من الشئون الإلهية فيها، فيجدها في الكتب عند المشاهدة العامة، ويجدها في كل زمان يمر عليه الموازن لزمن إخراجها، وهو في الجنة، فيختص من الله بمشهد في عين جنته لا يشهده إلا من هو بهذه المثابة، وكل من نزل عن صدقته عن هذه الدرجة كانت منزلته عند الله بمنتهى علمه وقصده، والصدقة لا تكون إلا من الاسم الغني الشاكر ذي القوة المتين بطريق الامتنان، غير طالب للشكر عليها، فإن اقترن معها طلب الشكر فليست من الاسم الغني، بل من الاسم المريد الحكيم العالم، فإن خطر للمتصدق أن يقرض الله قرضا حسنا بصدقته تلك مجيبا لأمر الله، فهذا الباب أيضا يلحق بالصدقة؛ لكونه مأمورا بالقرض، وقد يكون القرض نفس الزكاة الواجبة، فإن طلب عوضا زائدا ينتفع به على ما أقرض خرج عن حده قرضا، وكانت صدقته غير موصوفة بالقرضية، فإنه لم يعط القرض المشروع، فإن الله تعالى لا ينهى عن الربا ويأخذه منا .

كذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن كل قرض جر منفعة فهو ربا، وهو أن يخطر له هذا عند الإعطاء فلا يعطيه إلا لهذا، وللمعطي الذي هو المقترض أن يحسن في الوفاء ويزيد فوق ذلك ما شاء من غير أن يكون شرطا في نفس القرض، فإن الله يعاملنا بما شرع لنا لا بغير ذلك، ألا تراه قد أمر نبيه أن يسأله يوم القيامة أن يحكم بالحق الذي بعثه به بين عباده وبينه، فقال له: قال رب احكم بالحق والألف واللام للحق المعهود الذي بعث به، وعلى هذا تجري أحوال الخلق يوم القيامة، فمن أراد أن يرى حكم الله يوم القيامة فلينظر إلى حكم الشرائع الإلهية في الدنيا حذو النعل بالنعل من غير زيادة ولا نقصان، فكن على بصيرة من شرعك، فإنه عين الحق الذي إليه مالك، ولا تغتر وكن على حذر، واحسن الظن بربك، واعرف مواقع خطابه في عباده من كتابه العزيز، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم. اهـ .

(وقال صلى الله عليه وسلم لأبي الدرداء) رضي الله عنه: (إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، ثم انظر أهل بيت من جيرانك فأصبهم منه) أي: من مائها (بمعروف) .

قال العراقي: رواه مسلم من حديث أبي ذر [ ص: 167 ] قال: ذلك له، وما ذكره المصنف أنه قال لأبي الدرداء: وهم. اهـ .

قلت: هكذا وقع في سائر نسخ الكتاب، وهو تابع لما في القوت، وهكذا هو فيه، ولعله وقع تصحيف من النساخ، فإن اللفظتين متقاربتان، ثم إن لفظ مسلم: إذا طبخت مرقة فأكثر ماءها، وتعاهد جيرانك، أورده في البر والصلة، لكن من حديث أبي هريرة لأبي ذر، وأخرج أبو بكر بن أبي شيبة وأحمد والبزار من حديث جابر بلفظ: إذا طبختم اللحم فأكثروا المرق، فإنه أوسع وأبلغ بالجيران. والأمر فيه للندب عند الجمهور، وللوجوب عند الظاهرية، وفيه تنبيه لطيف على تسهيل الأمر على مريد الخير، حيث لم يقل: فأكثر لحمها أو طعامها؛ إذ لا يسهل ذلك على كثير، والمرق يسمى أحد اللحمين؛ لما فيه من خاصيته .

(وقال صلى الله عليه وسلم: ما أحسن عبد الصدقة إلا أحسن الله الخلافة على تركته) ، أما إحسان العبد الصدقة وصفة كمالها، فأن يخرجها بانشراح صدر ومن أطيب ماله والمسارعة فيها خوف الحوادث، وعدم التكبر في رؤيتها، وعدم استعظامها، إلى غير ذلك من الأحاديث التي ذكرت في سياق المصنف، والمراد بتركته: أولاده، ومعنى إحسان الله الخلافة فيهم أن يخلفه في أولاده وعياله بالحفظ لهم والحراسة، والحديث قال العراقي: رواه ابن المبارك في الزهد من حديث ابن شهاب مرسلا بإسناد صحيح، وأسنده الخطيب في أسماء من روى عن مالك من حديث ابن عمر وضعفه ا ه .

قلت: ابن شهاب هو الزهري، وقد رواه الديلمي في مسند الفردوس من طريقه عن أنس، كذا قاله الحافظ السيوطي في الجامع الكبير .

(وقال صلى الله عليه وسلم: كل امرئ في ظل صدقته يوم القيامة) أي: حين تدنو الشمس من الرؤوس (حتى يقضى بين الناس) .

قال العراقي: رواه ابن حبان والحاكم وصححه على شرط مسلم من حديث عقبة بن عامر. ا ه .

قلت: ولفظ الحاكم: حتى يفصل، وأقر الذهبي على تصحيحه، وقال في المذهب: إسناده قوي، وقد رواه أحمد أيضا ورجاله ثقات، قاله الهيثمي: ومعنى الحديث أن المتصدق يكفى المخاوف ويصير في كنف الله وستره، يقال: أنا في ظل فلان؛ أي: في ذراه وحماه، أو المراد الحقيقة بأن تجسد الصدقة فيصير لها ظل بخلق الله، وإيجاده كما قيل في نظائره من ذبح الموت ووزن الأعمال، وقال بعض السلف: لا يأتي علي يوم إلا أتصدق ولو ببصلة أو لقمة. وفي الطبراني في الكبير من حديث عقبة بن عامر مرفوعا بلفظ: إن الصدقة لتطفئ عن أهلها حر القبور، وإنما يستظل المؤمن يوم القيامة في ظل صدقته. وفي إسناده ابن لهيعة.

(وقال صلى الله عليه وسلم: الصدقة تسد سبعين بابا من الشر) كذا في النسخ. وفي بعضها: من السوء، قال العراقي: رواه ابن المبارك في البر من حديث أنس بسند ضعيف: إن الله ليدرأ بالصدقة سبعين بابا من ميتة السوء ا. ه .

قلت: قد رواه الطبراني في الكبير عن رافع بن خديج بلفظ المصنف، وهكذا في نسخ المعجم: من السوء، وفي بعضها: من الشر، قال الهيثمي: فيه حماد بن شعيب، وهو ضعيف. وأورد الخطيب في تاريخه في ترجمة الحارث الهمداني عن أنس رفعه: الصدقة تمنع سبعين بابا من أنواع البلاء، أهونها الجذام والبرص. والحارث هو ابن النعمان ضعيف .

وروى القضاعي في مسند الشهاب من حديث أبي هريرة: الصدقة تمنع ميتة السوء.

قال العامري: صحيح، ورد بأن فيه من لا يعرف .

كذا قال الحافظ ابن حجر، والمراد بميتة السوء: سوء الخاتمة ووخامة العاقبة، أعاذنا الله منها وسائر المسلمين .

(وقال صلى الله عليه وسلم: صدقة السر تطفئ غضب الرب عز وجل) وهذا قد تقدم الكلام عليه في الفصل الثاني، وأنه رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبي سعيد الخدري.

وروى الترمذي عن أنس بن مالك مرفوعا: إن الصدقة لتطفئ غضب الرب، وتدفع عن ميتة السوء. وقال: حسن غريب، قال في الشريعة: فهذا من آثار الصدقة؛ الدفع وإطفاء نار الغضب؛ فإن الله يغضب يوم القيامة غضبا لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله، على الوجه الذي يليق بجلاله؛ فإن الغضب الذي خاطبنا به معلوم بلا شك، ولكن نسبته إلى الله مجهولة لا أن الغضب مجهول، أو يحمل على ما ينتجه في الغاضب، أو يحمل على معنى آخر لا نعلمه نحن؛ إذ لو كان ذلك لخوطبنا بما لا نفهم، فلا يكون له أثر فينا ولا يكون موعظة، فإن المقصود الإفهام بما يعلم، ولكن إنما جهلنا النسبة [ ص: 168 ] خاصة لجهلنا بالمنسوب إليه لا بالمنسوب، فاعلم ذلك .

وقد جرى لبعض شيوخنا من أهل المزية بالمغرب الأقصى أن السلطان رفع إليه في حقه أمورا يجب قتله بها، فأمر بإحضاره مقيدا، ونادى في الناس أن يحضروا بأجمعهم حتى يسألهم عنه، وكان الناس على كلمة واحدة في قتله والقول بكفره وزندقته، فمر الشيخ في طريقه بخباز، فقال له: أقرضني نصف قرصة، فأقرضه، فتصدق بها على شخص عابد، ثم حمل وأجلس في ذلك الجمع العظيم، والحاكم قد عزم إن شهد الناس فيه بما ذكر عنه أنه يقتل شر قتلة، وكان الحاكم من أبغض الناس فيه، فقال: يا أهل البلد، هذا فلان، ما تقولون فيه؟ فنطق الكل بلسان واحد أنه عدل رضا، فتعجب الحاكم، فقال له الشيخ: لا تعجب، فما هذه المسألة بعيدة، أي أعظم: غضبك أو غضب الله وغضب النار؟ قال: غضب الله وغضب النار، قال: وأي وقاية أعظم وزنا وقدرا: نصف قرصة أو نصف تمرة؟ قال: نصف قرصة، قال: دفعت غضبك وغضب هذا الجمع بنصف قرصة؛ لما سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: اتقوا النار ولو بشق تمرة. وقال: إن الصدقة لتطفئ غضب الرب وتدفع ميتة السوء. وقد فعل الله ذلك، دفع عني شركم وميتة السوء بنصف رغيف، مع حقارتكم وعظم صدقتي؛ فإن صدقتي أعظم من شق تمرة، وهول غضبكم أقل من غضب النار وغضب الرب. فتعجب الحاضرون من قوة إيمانه. وأسوأ الموتات أن يموت الإنسان على حالة تؤديه إلى الشقاء، ولا يغضب الله إلا على شقي، فانظر أثر الصدقة كيف أثرت في غضب، وفي أسوأ الموتات وفي سلطان جهنم، فالمتصدق على نفسه عند الغضب ليس إلا بأن يملكها عند ذلك، فإن ملكه إياها عند الغضب صدقة عليها من حيث لا يشعر، قال صلى الله عليه وسلم: ليس الشديد بالصرعة فإنما الشديد من يملك نفسه عند الغضب. فإن الغضب نار محرقة، فهذا من صدقة الإنسان على نفسه .

(وقال صلى الله عليه وسلم: ما المعطي من سعة بأفضل أجرا من الذي يقبل من حاجة) أي: بأن كان عاجزا غير مكتسب وخاف هلاكه وضياع من يعول، فإنه حينئذ مأجور على القبول بل والسؤال، ولا يربو أجر المعطي على أجره، بل قد يكون السؤال واجبا لشدة الضرورة، فيزيد أجره على أجر المعطي، والحديث رواه صاحب القوت عن عائذ بن شريح عن أنس، قال العراقي: رواه ابن حبان في الضعفاء والطبراني في الأوسط من حديث أنس، ورواه في الكبير من حديث ابن عمر بسند ضعيف. اهـ .

قلت: وكذا رواه أبو نعيم في الحلية، ولفظه ولفظ الطبراني في الأوسط، وكذا لفظ ابن حبان: ما الذي يعطي بأعظم أجرا من الذي يقبل إذا كان محتاجا. وفي مسند الطبراني، فقال: قال الهيثمي: فيه عائذ بن شريح صاحب أنس، وهو ضعيف. وقال الذهبي في الميزات: قال أبو حاتم: في حديثه ضعف، وقال ابن طاهر: ليس بشيء. وفيه أيضا يوسف بن أسباط متروك، وهذان أيضا في مسند أبي نعيم، وأما لفظ الطبراني في الكبير الذي أشار إليه العراقي: ما المعطي من سعة بأفضل من الآخذ إذا كان محتاجا. وقوله: بسند ضعيف؛ أي: فيه مصعب بن سعيد، وهو ضعيف. قاله الهيثمي. ثم قال المصنف: (ولعل المراد به الذي يقصد من دفع حاجته التفرغ للدين) كالاشتغال بالعلم وبذكر الله، (فيكون مساويا للمعطي الذي يقصد بإعطائه عمارة دينه) ، وكذا إذا قصد من دفع حاجته زوال الهلاك عن نفسه أو عمن يعوله، فحينئذ أيضا يكون مساويا للمعطي في الأجر، وفي الحديث: فضل الفقر والصبر عليه على الغنى، (وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم: أي الصدقة أفضل) أجرا؟ (قال: أن تصدق) بتخفيف الصاد وحذف إحدى التاءين أو بإبدال إحدى التاءين صادا (وأنت صحيح) أي: في جسمك (شحيح) أي: بخيل بمالك (تأمل البقاء وتخشى الفاقة) أي: ترجو أن تعيش في الدنيا وتخشى الفقر؛ لمجاهدة النفس حينئذ على إخراج المال مع قيام المانع، وهو الشح؛ إذ فيه دلالة على صحة القصد وقوة الرغبة في القربة، (ولا تمهل) بالجزم على النهي أو بالنصب عطفا على "تصدق" أو بالرفع، وهو الرواية (حتى إذا بلغت) الروح أي: قاربت (الحلقوم) بضم الحاء المهملة، مجرى النفس عند الغرغرة، (قلت: لفلان كذا ولفلان كذا) كناية عن الموصى له والموصى به فيهما، (وقد كان لفلان) أي: وقد صار ما أوصى به للوارث، فيطلبه إن شاء إذا زاد على الثلث أو أوصى به لوارث آخر. [ ص: 169 ] والمعنى: تصدق في حال صحتك واختصاص المال بك وشح نفسك بأن تقول: لا تتلف لك كيلا تصير فقيرا إلا في حال سقمك وسياق موتك؛ لأن المال حينئذ خرج منك وتعلق بغيرك، قال العراقي: أخرجاه من حديث أبي هريرة. اهـ .

قلت: وأخرجه أحمد وأبو داود والنسائي كذلك إلا أن في سياقهم تفاوتا؛ فلفظ مسلم: أي الصدقة أعظم؟ فقال: أن تصدق وأنت صحيح شحيح تخشى الفقر وتأمل الغنى، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم .

قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، إلا وقد كان لفلان،
وفي لفظ آخر: أي الصدقة أعظم أجرا؟ قال: أما وأبيك لتنبأنه أن تصدق وأنت شحيح صحيح، تخشى الفقر وتأمل البقاء، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم، قلت: لفلان كذا ولفلان كذا، وقد كان لفلان، وفي رواية: أي الصدقة أفضل؟ تفرد مسلم بقوله: أما وأبيك لتنبأنه. وبقوله: وتأمل البقاء. وفي بعض طرق البخاري: وأنت صحيح حريص. ذكره في الوصايا، وبه يظهر لك أن السياق الذي ساقه المصنف ملفق من روايات، وفي كتاب الشريعة: إن من عباد الله من يكشف له فيما بيده من الرزق، وهو ملك له أنه لفلان ولفلان، ويرى أسماء أصحابه عليه، ولكن على يده، فإذا أعطي من هذه صفته صدقة هل تكتب له صدقة؟ قلنا: نعم؛ تكتب له صدقة من حيث ما نسب الله الملك له، وإن كشف فلا يضره ذلك الكشف، ألا ترى المحتضر قد أزيل عنه اسم الملك، وحجر عليه التصرف فيه، وما أبيح له منه إلا الثلث، وما فوق ذلك فلا يسمع له فيه كلام؛ لأنه يتكلم فيما لا يملك؟! واعلم أن النفس قد جبلت على الشح، والإنسان خلق فقيرا محتاجا، وحاجته بين عينيه، والشيطان يعده ويمنيه، فلا يغلب نفسه ولا الشيطان إلا الشديد بالتوفيق الإلهي، فلو لم يأمل البقاء وتيقن الفراق لهان عليه إعطاء المال؛ لأنه مأخوذ عنه بالقهر شاء أم أبى، فمن طمع النفس أن تجود في تلك الحالة، لعل يحصل بذلك في موضع آخر قدر ما فارقته، كل ذلك من حرصها، فلم تجد مثل هذه النفس عن كرم ولا وقاها الله شحها، فينبغي لمن لم يقه الله شح نفسه، وقد وصل إلى بلوغ الروح الحلقوم، وارتفع عنه في تعيينه لفلان طائفة من ماله أن يكون ذلك صدقة، فليجعل في نفسه عند تعيينه أنه مؤد أمانة، وإن ذلك وقتها في علم الله، فيحشر مع الأخلاء المؤدين أمانتهم لا مع المتصدقين، ولا يخطر له خاطر الصدقة ببال إن أراد أن ينصح نفسه، والله أعلم .

(وقال صلى الله عليه وسلم لأصحابه يوما: تصدقوا، فقال رجل: إن عندي دينارا، فقال: أنفقه على نفسك، فقال: إن عندي آخر، قال: أنفقه على زوجك، فقال: إن عندي آخر، قال: أنفقه على ولدك، قال: إن عندي آخر، قال: أنفقه على خادمك، قال: إن عندي آخر، قال: أنت أبصر به) .

قال العراقي: رواه أبو داود إلخ والنسائي واللفظ له، وابن حبان والحاكم من حديث أبي هريرة، وقد تقدم قبل بيسير. اهـ .

قلت: تقدم في أول الباب، وفيه تقديم نفقة الولد على نفقة الزوجة، وهنا بعكسه، وتقدم الكلام عليه .

وأخرج مسلم من حديث الليث عن ابن الزبير عن جابر مرفوعا: ابدأ بنفسك فتصدق عليها، فإن فضل شيء فلأهلك، فإن فضل عن أهلك شيء فلذي قرابتك، فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا، يقول: بين يديك وعن يمينك وعن شمالك. وهكذا أخرجه النسائي أيضا، والاعتبار في ذلك أن أقرب أهل الرجل إليه نفسه، فهو أولى بما يتصدق به من غيرها بالصدقة التي تليق بها، ثم جوارحه ثم الأقرب إليه بعد ذلك من زوج وولد وخادم. وقال أهل البصائر: وتلميذ طالب حكمة أو فائدة إذا تحقق العارف به حتى كان كله نورا، وكان الحق سمعه وبصره وجميع قواه، وكان حقا كله، فمن كان من أهل الله فإنه أهل هذا الشخص بلا شك كما ورد: أهل القرآن أهل الله وخاصته، كذلك من هم أهل الله وخاصته هم أهل هذا الشخص؛ لأنه حق كله. ولهذا قال عليه السلام: واجعلني كلي نورا؛ لما رأى أن الحق سمى نفسه نورا، والمتصدق على أهل الله هو المتصدق على أهله إذا كان المتصدق بهذه المثابة .

قال الشيخ -قدس سره-: دخلت على شيخنا أبي العباس وأردنا أو أراد أحد إعطاء معروف، فقال له شخص: الأقربون أولى بالمعروف، فقال الشيخ: إلى الله فما أبردها على الكبد! فلا ينبغي أن يأكل نعم الله إلا أهل الله، وهم المقصودون بالنعم، ومن عداهم إنما يأكلها بحكم التبعية بالمجموع، ومن حيث التفصيل فما منه جزء فرد إلا هو مسبح لله، وهو من أهل الله، وهذه المسألة من أغمض [ ص: 170 ] المسائل، والله أعلم .




الخدمات العلمية