الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

إتحاف السادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين

مرتضى الزبيدي - محمد بن محمد الحسيني الزبيدي

صفحة جزء
التاسع الترقي وأعني به أن يترقى إلى أن يسمع الكلام من الله عز وجل لا من نفسه فدرجات القراءة ثلاث أدناها ان يقدر العبد كأنه يقرؤه على الله عز وجل واقفا بين يديه وهو ناظر إليه ومستمع منه فيكون حاله عند هذا التقدير السؤال ، والتملق ، والتضرع ، والابتهال .

الثانية أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه ، ويخاطبه بألطافه ، ويناجيه بإنعامه وإحسانه فمقامه الحياء والتعظيم والإصغاء والفهم .

الثالثة أن يرى في الكلام المتكلم ، وفي الكلمات الصفات فلا ينظر إلى نفسه ، ولا إلى قراءته ، ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه بل يكون مقصور الهم على المتكلم موقوف الفكر عليه كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره .

وهذه درجة المقربين وما قبله درجة أصحاب اليمين وما خرج عن هذا فهو درجات الغافلين .

وعن الدرجة العليا أخبر جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه قال : والله لقد تجلى الله عز وجل لخلقه في كلامه ، ولكنهم لا يبصرون وقال أيضا ، وقد سألوه عن حالة لحقته في الصلاة حتى خر مغشيا عليه فلما سري عنه قيل له في ذلك ، فقال : ما زلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته ففي مثل هذه الدرجة تعظم الحلاوة ولذة المناجاة ولذلك قال بعض الحكماء كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه ثم رفعت إلى مقام فوقه كنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل عليه السلام يلقيه على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم جاء الله بمنزلة أخرى ، فأنا الآن أسمعه من المتكلم به فعندها ، وجدت له لذة ، ونعيما لا أصبر عنه .

وقال عثمان وحذيفة رضي الله عنهما لو طهرت القلوب لم تشبع من قراءة القرآن وإنما قالوا ذلك لأنها بالطهارة تترقى إلى مشاهدة المتكلم في الكلام ولذلك قال ثابت البناني : كابدت القرآن عشرين سنة وتنعمت به عشرين سنة وبمشاهدة المتكلم دون ما سواه يكون العبد ممتثلا لقوله عز وجل ففروا إلى الله ولقوله : ولا تجعلوا مع الله إلها آخر فمن لم يره في كل شيء فقد رأى غيره ، وكل ما التفت إليه العبد سوى الله تعالى تضمن التفاته شيئا من الشرك الخفي بل التوحيد الخالص أن لا يرى في كل شيء إلا الله عز وجل .

التالي السابق


(التاسع الترقي وهو) يكون من حضيض إلى أوج، والمراد منه (أن يترقى) في تلاوته (إلى أن يسمع الكلام) الذي يتلوه (من الله عزو جل لا من نفسه فدرجات القراءة ثلاث أدناها أن يقدر العبد) في نفسه، (وكأنه يقرأ على الله عز وجل) ، ويناجيه بكلامه، (واقفا بين يديه) بالإجلال والتعظيم (وهو ناظر إليه) بعين رحمته، وألطافه (ومستمع منه) ما يتلوه (فيكون حاله عند هذا التقدير) ، ومقامه (السؤال، والتملق، والتضرع، والابتهال) والطلب والتعلق، فالسؤال والتملق مقامه، والطلب، والتعلق حاله (الثانية أن يشهد بقلبه كأن الله عز وجل يراه، ويخاطبه بألطافه، ويناجيه بإنعامه وإحسانه فمقامه الحياء والتعظيم و) حاله (الإصغاء والفهم) لما يتلوه .

(الثالثة أن يرى في الكلام المتكلم، وفي الكلمات الصفات) أي يشهد أوصاف المتكلم في كلامه، ويعرف أخلاقه بمعاني خطابه، (فلا ينظر إلى نفسه، ولا إلى قراءته، ولا إلى تعلق الإنعام به من حيث إنه منعم عليه) بإحسانه، (بل يكون مقصور الفهم على المتكلم موقوف الفكر عليه كأنه مستغرق بمشاهدة المتكلم عن غيره) ، بل لا يخطر السوى بباله، (وهذه درجة) العارفين (المقربين) ، ومقامهم، وهي أعلاها، (وما قبله درجة) الأبرار من (أصحاب اليمين) ، كما أن ما قبله درجة المتعرفين، والمريدين (وما خرج عن هذا فهي درجات الغافلين) ، فإذا كان التالي من أصحاب اليمين فينبغي له أن يشهد في التلاوة أن مولاه يخاطبه بالكلام; لأنه سبحانه وتعالى متكلم بكلام نفسه، وليس للعبد في كلامه كلام، وإنما جعل له حركة اللسان بوصفه، وتيسير الذكر بلسانه لحكمة ربه تعالى حدا للعبد، ومكانا له، كما كانت الشجرة وجهة لموسى عليه السلام كلمه ربه منها، (وعن الدرجة العليا) من الدرجات الثلاث، (أخبر) الإمام أبو محمد (جعفر بن محمد) بن علي بن الحسين (الصادق رضي الله عنه، فقال: والله لقد تجلى الله لخلقه في كلامه، ولكنهم لا يبصرون) نقله صاحب القوت، أي لا يدركونه بحجب بصيرتهم، عن ذلك، (وقال [ ص: 524 ] أيضا، وقد سألوه عن حالة لحقته) ، ولفظ القوت، عن شيء لحقه (في الصلاة حتى خر مغشيا عليه فلما سري عنه) ، أي كشف عنه، وأفاق (فقيل له في ذلك، فقال: ما زلت أردد الآية على قلبي حتى سمعتها من المتكلم بها فلم يثبت جسمي لمعاينة قدرته) تعالى .

فكذلك الخصوص يرددون الآية في قلوبهم، ويتحققون في مشاهدتهم بمدد من سيدهم حتى يستغرقهم الفهم فيغرقون في بحر العلم، (ففي مثل هذه الدرجة تعظم الحلاوة) في التلاوة، (و) تكثر (لذة المناجاة) ، وينتج الاستغراق، (ولذلك قال بعض الحكماء) ، وفي القوت، وقال بعض العلماء: (كنت أقرأ القرآن فلا أجد له حلاوة حتى تلوته كأني أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوه على أصحابه) ، أي قدرت في نفسي ذلك، (ثم رفعت إلى مقام فوقه فكنت أتلوه كأني أسمعه من جبريل عليه السلام يلقيه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جاء الله تعالى بمنزلة أخرى، فأنا الآن أسمعه من المتكلم به عز وجل فعندها، وجدت لذة، ونعيما لا أصبر عنه) ، هكذا ساقه في القوت .

(وقال عثمان) بن عفان، (وحذيفة) بن اليمان رضي الله عنهما، (لو طهرت القلوب) ، أي عن دنس الأغطية (لم تشبع من قراءة القرآن) ، كذا نقله صاحب القوت، (وإنما قالا ذلك لأنها بالطهارة) القلبية، (ترقى إلى مشاهدة المتكلم في الكلام) ، ومعاينة أخلاقه في صفاته، (ولذلك قال ثابت البناني: كابدت القرآن عشرين سنة) ، أي جاهدت نفسي في تحصيله على أعلى الدرجات، (وتنعمت به عشرين سنة) ، نقله صاحب القوت .

وفي الحلية لأبي نعيم حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا أحمد بن الحسين، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن كثير، حدثني محمد بن مالك، حدثنا عمرو بن محمد بن أبي رزين قال: قال ثابت: كابدت الصلاة عشرين سنة، وتنعمت بها عشرين سنة، (وبمشاهدة المتكلم) في كلامه (دون ما سواه يكون العبد ممتثلا لقوله عز وجل ففروا إلى الله ) أي من الخلق. اعلم أن التالي إذا كان من أهل العلم بالله، والفهم عنه، والسمع من الله تعالى، والمشاهدة فيشهد ما غاب عن غيره، وأبصر ما عمي عنه سواه، وقد قال الله تعالى فلا أقسم بما تبصرون وما لا تبصرون وقال تعالى فاعتبروا يا أولي الأبصار ، معناه في الفهم اعبروا إلي، فقد أبصرتم فلما أعطاهم الأيدي والأبصار عبروا بقواهم إلى ما أبصروا، ففروا إلى الله عز وجل من الخلق حين ذكروه مما خلق فخرجوا على معيار حسن الابتلاء، ولم ينقصهم البلاء شيئا فكانوا كما أخبروا كالذي أمر في قوله ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون ففروا إلى الله (ولقوله تعالى: ولا تجعلوا مع الله إلها آخر ) فكانوا هم الموحدون المخلصون له، وكان هو المنفرد المستخلص لهم، ثم جاوزوا التذكرة بالأشياء إليه، فذكروه عنده به فحينئذ هربوا إليه منه حين هللوا به، فلم يتألهوا إلى سواه، كما لم يعبدوا إلا إياه .

قال صاحب القوت وكذلك رأيتها في مصحف عبد الله ففروا إلى الله منه إني لكم نذير مبين (فمن لم يره في كل شيء فقد رأى غيره، وكل ما التفت إليه العبد سوى الله تعالى تضمن التفاته شيئا من الشرك الخفي) الذي هو أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، (بل التوحيد الخالص أن لا يرى في كل شيء إلا الله عز وجل) ، وهذا هو المعبر عنه بحقيقة الحقائق، وأصحاب هذا المقام بعد اتفاقهم على ذلك منهم من كان له هذا الحال عرفانيا علميا .

ومنهم من صار له ذلك ذوقا حالا، وانتفت عنهم الكثرة، واستغرقوا بالفردانية المحضة، واستوفيت فيها عقولهم فصاروا كالمبهوتين فيه، ولم يبق فيهم متسع لا لذكر غير الله، ولا لذكر أنفسهم أيضا فلم يكن عندهم إلا الله فسكر وأسكر أوقع دون سلطان عقولهم فشطوا وكلام العشاق في حال السكر يطوى، ولا يحكى فلما خف عنهم سكرهم، وردوا إلى سلطان العقل الذي هو ميزان الله في الأرض عرفوا أن ذلك لم يكن حقيقة الاتحاد، بل يشبه الاتحاد، وهذه الحالة إذا غلبت سميت بالإضافة إلى صاحب الحالة فناء، بل فناء الفناء; لأنه فني عن نفسه، وفني عن فنائه فإنه ليس يشعر بنفسه في تلك الحال، ولا يعدم شعوره بنفسه، ولو شعر بعدم شعوره بنفسه كان قد شعر بنفسه، وتسمى هذه الحال بالإضافة إلى المستغرق به بلسان المجاز اتحادا، وبلسان الحقيقة توحيدا، والله أعلم .




الخدمات العلمية