الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2805 2806 [ ص: 294 ] ص: وليس هذا الحديث عندنا يدل على ما ذهبوا إليه ; لأن رسول الله - عليه السلام - قد روي عنه ما حدثنا يونس ، قال : أنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، عن ابن عباس - رضي الله عنهما - : " أن رسول الله - عليه السلام - كان يسدل شعره ، وكان المشركون يفرقون رءوسهم ، . وكان أهل الكتاب يسدلون رءوسهم ، وكان رسول الله - عليه السلام - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ، ثم فرق رسول الله - عليه السلام - " .

                                                حدثنا محمد بن عزيز الأيلي ، قال : ثنا سلامة ، عن عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني عبيد الله ، . . فذكر بإسناده مثله .

                                                فأخبر ابن عباس: - رضي الله عنهما - أن رسول الله - عليه السلام - كان يتبع أهل الكتاب حتى يؤمر بخلاف ذلك ، فاستحال أن يكون ما أمر به من القعود في حديث عبادة هو لخلاف أهل الكتاب قبل أن يؤمر بخلافهم في ذلك ; لأن حكمه - عليه السلام - أن يكون على شريعة النبي - عليه السلام - الذي كان قبله حتى تحدث له شريعة تنسخ ما تقدمها ، قال الله -عز وجل- : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده ولكنه ترك ذلك عندنا -والله أعلم- حين أحدث الله له شريعة في ذلك وهو القعود ، نسخ ما قبلها وهو القيام .

                                                التالي السابق


                                                ش: رد الطحاوي ما ذهب إليه أولئك القوم واستدلالهم فيه بحديث عبادة بن الصامت المذكور ، بيانه : أنه ورد في حديث ابن عباس أنه - عليه السلام - كان يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر فيه بشيء ، وكان يتبعهم إلى أن يؤمر بخلافه ، فمن المستحيل أن يكون ما أمر به النبي - عليه السلام - من القعود في حديث عبادة لأجل مخالفته أهل الكتاب قبل أن يؤمر بخلافهم في ذلك ; فإنه - عليه السلام - كان حكمه أن يكون على شريعة النبي - عليه السلام - الذي كان قبله إلى أن يبعث الله شريعة تنسخ ذلك ، وكيف وقد أمره الله - عليه السلام - أن بهدى الذين هداهم الله من قبله من الأنبياء عليهم السلام كما قال -عز وجل- في كتابه الكريم : أولئك الذين هدى الله فبهداهم اقتده فظهر من ذلك أن [ ص: 295 ] تركه - عليه السلام - القيام وأمره إياهم بالقعود ; لأجل ما أحدث الله له من شريعة -وهو القعود- بنسخ ما قبله- وهو القيام .

                                                ثم اعلم أن أهل الأصول اختلفوا في شرائع من قبلنا ، فمنهم من قال : ما كان شريعة لنبي فهو باق أبدا حتى يقوم دليل النسخ فيه ، وكل من يأتي فعليه أن يعمل به على أنه شريعة ذلك النبي ما لم يظهر ناسخه .

                                                وقال بعضهم : شريعة كل نبي تنتهي ببعث نبي آخر بعده ، حتى لا يعمل به إلا أن يقوم الدليل على بقائه ، وذلك ببيان من النبي المبعوث بعده .

                                                وقال بعضهم : شرائع من قبلنا يلزمنا العمل بها على أن ذلك شريعة لنبينا - عليه السلام - فيما لم يظهر دليل النسخ فيه ، ولا يفصلون بين ما يصير معلوما من شرائع من قبلنا بنقل أهل الكتاب أو برواية المسلمين عما في أيديهم من الكتاب ، وبين ما يثبت من ذلك ببيان في القرآن أو السنة .

                                                وقال شمس الأئمة : وأصح الأقاويل عندنا أن ما ثبت بكتاب الله أنه كان شريعة من قبلنا أو ببيان من رسول الله - عليه السلام - فإن علينا العمل به على أنه شريعة لنبينا ما لم يظهر ناسخه ، فأما ما علم بنقل أهل الكتاب أو بفهم المسلمين من كتبهم فإنه لا يجب اتباعه ; لقيام دليل موجب للعلم على أنهم حرفوا الكتب فلا يعتبر نقلهم في ذلك لتوهم أن المنقول من جملة ما حرفوا ، ولا يعتبر فهم المسلمين ذلك مما في أيديهم من الكتاب ; لجواز أن يكون ذلك من جملة ما غيروا وأبدلوا .

                                                ثم إنه أخرج حديث ابن عباس من طريقين صحيحين ورجالهما كلهم رجال الصحيح ما خلا ابن عزيز -بضم العين وبزاءين معجمتين- وسلامة بن روح بن خالد وهما أيضا ثقتان .

                                                ويونس الأول هو ابن عبد الأعلى شيخ مسلم ، والثاني يونس بن يزيد الأيلي ، وابن شهاب هو محمد بن مسلم بن شهاب الزهري ، وعقيل -بضم العين- ابن خالد الأيلي . [ ص: 296 ] وأخرجه البخاري : ثنا أحمد بن يونس ، ثنا إبراهيم بن سعد ، ثنا ابن شهاب ، عن عبيد الله بن عبد الله ، عن ابن عباس قال : "كان النبي - عليه السلام - يحب موافقة أهل الكتاب فيما لم يؤمر به ، وكان أهل الكتاب يسدلون أشعارهم ، وكان المشركون يفرقون رءوسهم ، فسدل النبي - عليه السلام - ناصيته ، ثم فرق بعد " .

                                                ومسلم : حدثني أبو الطاهر ، قال : أنا ابن وهب ، قال : أخبرني يونس ، عن ابن شهاب ، عن عبيد الله . . . إلى آخره نحوه .

                                                وأبو داود : نا موسى بن إسماعيل ، قال : ثنا إبراهيم بن سعد قال : أخبرني ابن شهاب . . . إلى آخره نحوه .

                                                والنسائي : أنا محمد بن مسلمة ، ثنا ابن وهب ، عن يونس ، عن الزهري . . . إلى آخره نحوه .

                                                قوله : "كان يسدل شعره " من السدل وهو الإرخاء والإرسال ، وفي "المطالع " وهو إرسال الشعر على الوجه من غير تفريق ، وكذلك السدل في الصلاة إرخاء الثوب على المنكبين إلى الأرض دون أن يضم جوانبه . قال الجوهري : سدل ثوبه يسدله -بالضم- سدلا أي أرخاه ، وشعر منسدل .

                                                قوله : "ثم فرق " من فرقت الشعر أفرقه فرقا ، وانفرق شعره إذا زال عن الاجتمال ، وإن لم يفترق كان وفرة ، قال الجوهري : فرقت بين الشيئين أفرق فرقا وفرقانا ، وفرقت الشيء تفريقا وتفرقة فانفرق وافترق وتفرق ، والمفرق : وسط الرأس ، وهو الموضع الذي يفرق فيه الشعر ، وكذلك مفرق الطريق . [ ص: 297 ] وفي "المطالع " : وكانوا يفرقون- بالتخفيف أشهر ، وقد شدها بعضهم ، والمصدر الفرق -بالسكون- وقد انفرق شعره انقسم في مفرقه ، وهو وسط رأسه ، وأصله الفرق بين الشيئين ، والمفرق مكان فرق الشعر من الجبين إلى دائرة وسط الرأس ، يقال : بفتح الراء والميم وكسرهما ، وكذلك مفرق الطريق .



                                                الخدمات العلمية