الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2605 2606 2607 2608 ص: فإن قال قائل : فكيف يجوز أن يكون هذا قبل نسخ الكلام في الصلاة وأبو هريرة - رضي الله عنه - قد كان حاضرا ذلك ، وإسلام أبي هريرة إنما كان قبل وفاة النبي - عليه السلام - بثلاث سنين ؟ وذكر في ذلك ما حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا القواريري ، قال : ثنا يحيى بن سعيد القطان ، قال : ثنا إسماعيل بن أبي خالد ، عن قيس بن أبي حازم ، قال : أتينا أبا هريرة فقلنا : حدثنا فقال : "صحبت النبي - عليه السلام - ثلاث سنين " قالوا : فأبو هريرة إنما صحب رسول الله - عليه السلام - ثلاث سنين ، وهو حضر تلك الصلاة ، ونسخ الكلام في الصلاة كان والنبي - عليه السلام - بمكة ، فدل ذلك على أن ما كان في حديث ذي اليدين من الكلام في الصلاة مما لم ينسخ بنسخ الكلام في الصلاة إذ كان متأخرا ، عن ذلك .

                                                قيل له : أما ما ذكرت من وقت إسلام أبي هريرة ، فهو كما ذكرت ، وأما قولك : إن نسخ الكلام في الصلاة كان والنبي - عليه السلام - يومئذ بمكة ، فمن روى لك هذا وأنت لا تحتج إلا بمسند ولا تسوغ خصمك الحجة عليك إلا بمثله ؟ فمن أسند لك هذا وعن من رويته ؟ وهذا زيد بن أرقم الأنصاري - رضي الله عنه - يقول : "إنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت ، وقد روينا عنه في غير هذا الموضع من كتابنا ، هذا وصحبة زيد لرسول الله - عليه السلام - إنما كانت بالمدينة ، فقد [ ص: 70 ] ثبت بحديثه هذا أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة بعد قدوم رسول الله - عليه السلام - من مكة ، مع أن أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة مع رسول الله - عليه السلام - أصلا ; لأن ذا اليدين قتل يوم بدر مع رسول الله - عليه السلام - وهو أحد الشهداء ; قد ذكر ذلك محمد بن إسحاق وغيره وقد روي عن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما - ما يوافق ذلك .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا سعيد بن أبي مريم ، قال : أنا الليث بن سعد ، قال : حدثني عبد الله بن وهب ، عن عبد الله العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - : "أنه ذكر له حديث ذي اليدين ، فقال : كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين " .

                                                وإنما قول أبي هريرة عندنا : "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - " يعني : بالمسلمين ، وهذا جائز في اللغة ، وقد روي مثل هذا عن النزال بن سبرة :

                                                حدثنا فهد وأبو زرعة الدمشقي ، قالا : ثنا أبو نعيم ، قال : ثنا مسعر ، عن عبد الملك بن ميسرة ، عن النزال بن سبرة ، قال : قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إنا وإياكم كنا ندعى بنو عبد مناف ، وأنتم اليوم بنو عبد الله ، ونحن بنو عبد الله يعني لقوم النزال " فهذا النزال ، يقول : "قال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " وهو لم ير رسول الله - عليه السلام - يريد بذلك : قال لقومه ، وقد روي عن طاوس أنه قال : قدم علينا معاذ بن جبل ، - رضي الله عنه - فلم يأخذ من الخضروات شيئا ، وطاوس لم يدرك ذلك ; لأن معاذا - رضي الله عنه - إنما قدم اليمن ، في عهد رسول الله - عليه السلام - ولم يولد طاوس حينئذ ، فكان معنى قوله : "قدم علينا " أي : قدم بلدنا . وروي عن الحسن أنه قال : خطبنا عتبة بن غزوان ، " يريد خطبته بالبصرة . والحسن لم يكن بالبصرة حينئذ ; لأن قدومه لها إنما كان قبل صفين بعام .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا يوسف بن عدي ، قال : ثنا ابن إدريس ، عن شعبة ، عن أبي رجاء ، قال : "قلت للحسن : متى قدمت البصرة ؟ ؟ قال : قبل صفين بعام ، فكان معنى قول النزال ( : "قال لنا رسول الله - عليه السلام - " ومعنى قول طاوس ( : "قدم علينا معاذ ) " ومعنى قول الحسن ( : "خطبنا عتبة ) بن غزوان " إنما يريدون بذلك قومهم وبلدتهم لا أنهم حضروا ذلك ولا شهدوه ، فكذلك قول أبي هريرة - رضي الله عنه - في حديث [ ص: 71 ] ذي اليدين "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - " إنما يريد صلى بالمسلمين لا على أنه شهد ذلك ولا حضره ، فانتفى بما ذكرنا أن يكون في قوله : "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - " في حديث ذي اليدين ، ما يدل على أن ما كان من ذلك ، بعد نسخ الكلام في الصلاة .

                                                التالي السابق


                                                ش: تقرير السؤال أن يقال : كيف تقولون : إن ما كان من أمر ذي اليدين إنما كان قبل نسخ الكلام في الصلاة ، والحال أن أبا هريرة قد كان حاضرا قضية ذي اليدين ، وإسلام أبي هريرة إنما كان قبل وفاة النبي - عليه السلام - بثلاث سنين ؟

                                                وذكروا في ذلك ما أخرجه الطحاوي بإسناد صحيح ، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن عبيد الله بن عمر بن ميسرة القواريري شيخ البخاري ومسلم وأبي داود ، عن يحيى بن سعيد القطان ، عن إسماعيل بن أبي خالد هرمز البجلي الكوفي ، عن قيس بن أبي حازم حصين البجلي الكوفي .

                                                قوله : "قالوا : فأبو هريرة " أي قال أولئك القوم الذين ذهبوا إلى أن حديث ذي اليدين غير منسوخ : فأبو هريرة إنما صحب النبي - عليه السلام - ثلاث سنين وقد حضر تلك الصلاة ; لأنه قال في حديثه : "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - " ونسخ الكلام في الصلاة كان والحال أن النبي - عليه السلام - كان بمكة ، فإذا كان الأمر كذلك ; فقد ثبت أن ما كان من أمر ذي اليدين في الصلاة مما لم ينسخ بنسخ الكلام في الصلاة ; إذ كان متأخرا ، أي : لأنه كان متأخرا عن ذلك ، أي : عن نسخ الكلام .

                                                وتقرير الجواب مشتمل على ثلاثة أشياء :

                                                الأول : أن ما ذكرتم من وقت إسلام أبي هريرة مسلم لا نزاع لنا فيه .

                                                الثاني : أن دعوى نسخ الكلام في الصلاة وقت كون النبي - عليه السلام - بمكة ممنوع غير مسلم ، وأي دليل يدل عليه ، ومثل هذا لا يثبت إلا بسند صحيح ؟ فمن أين الإسناد في هذا وعمن روي حتى ننظر فيهم ؟ فهل هذا إلا مجرد دعوى بلا برهان ؟ ثم أكد الطحاوي بطلان دعواهم وصحة دعوى من يدعي أن نسخ الكلام كان والنبي - عليه السلام - بالمدينة بما رواه في باب : "الصلاة الوسطى " عن علي بن شيبة ، عن يزيد بن [ ص: 72 ] هارون ، عن إسماعيل بن أبي خالد ، عن الحارث بن شبيل ، عن أبي عمرو الشيباني ، عن زيد بن أرقم قال : "كنا نتكلم في الصلاة حتى نزلت حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين فأمرنا بالسكوت " وكانت صحبة زيد بن أرقم الأنصاري - رضي الله عنه - لرسول الله - عليه السلام - بالمدينة بلا خلاف ، فثبت بحديثه : أن نسخ الكلام في الصلاة كان بالمدينة بعد قدوم النبي - عليه السلام - من مكة .

                                                الثالث : أن أبا هريرة لم يكن حاضرا قضية ذي اليدين ، أشار إليه بقوله : "مع أن أبا هريرة لم يحضر تلك الصلاة مع رسول الله - عليه السلام - أصلا " ثم برهن عليه بقوله : "لأن ذا اليدين قتل يوم بدر مع رسول الله - عليه السلام - وهو معدود في جملة شهداء بدر ، قد ذكر ذلك محمد بن إسحاق بن يسار المدني صاحب "المغازي " حيث قال في تسمية من حضر غزوة بدر : فقال ذو الشمالين بن عبد عمرو بن نضلة بن غبشان بن سليم بن ملكان بن أفصى بن حارثة بن عمرو بن عامر من خزاعة ، حليف لبني زهرة ، قتل يومئذ شهيدا .

                                                وقال ابن هشام : اسمه عمير ، وإنما قيل له ذو الشمالين ; لأنه كان أعسر .

                                                وقد بينا فيما مضى أن ذا الشمالين هو ذو اليدين ، وأن كليهما لقبان عليه ، ولهذا كان الزهري يقول : إن قصة ذي اليدين كانت قبل بدر ، حكاه معمر وغيره عن الزهري ، قال الزهري : "ثم استحكمت الأمور بعد " .

                                                قوله : "وغيره " أي : وغير محمد بن إسحاق مثل أبي معشر ، قال ابن عبد البر : قال أبو معشر : إن ذا اليدين قتل يوم بدر .

                                                قوله : "وقد روي عن عبد الله بن عمر ب. . . إلى آخره " تأكيد لصحة ما ذكره من عدم حضور أبي هريرة قضية ذي اليدين ; لأن ابن عمر ب قال : "كان إسلام أبي هريرة بعد ما قتل ذو اليدين " فبالضرورة لم يكن أبو هريرة حاضرا قضيته . [ ص: 73 ] أخرج ذلك بإسناد صحيح ، عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن سعيد بن أبي مريم شيخ البخاري ، عن الليث بن سعد ، عن عبد الله بن وهب ، عن عبد الله بن عمر العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر - رضي الله عنهما - .

                                                وذكره ابن عبد البر في التمهيد : من حديث عبد الله بن وهب ، عن العمري ، عن نافع ، عن ابن عمر : "أن إسلام أبي هريرة كان بعد موت ذي اليدين " . فبطل بهذا قول من قال : إن ذا اليدين تأخر إلى زمن معاوية وروى عنه المتأخرون ، وثبت أن أبا هريرة قد كان أرسل حديث ذي اليدين كما أرسل : "من أدرك الفجر جنبا فلا صوم له " وكان كثير الإرسال .

                                                قوله : "وإنما قول أبي هريرة . . . إلى آخره " جواب عما يقال : كيف تقولون : إن قضية ذي اليدين كانت قبل بدر ، وأن موت ذي اليدين كان قبل إسلام أبي هريرة ، وأن أبا هريرة لم يحضر صلاته ولا شهدها ، وأبو هريرة يقول : "صلى بنا رسول الله - عليه السلام - " فهذا إخبار عن نفسه أنه كان حاضرا تلك الصلاة مع النبي - عليه السلام - ، وتقرير الجواب أن يقال : إن كلام أبي هريرة ليس على حقيقته ، وإنما معنى قوله : "صلى بنا " صلى بالمسلمين ، ومثل هذا سائغ زائغ في اللغة ، شائع بين الناس ، وذلك كما في قول النزال بن سبرة قال : "قال رسول الله - عليه السلام - إنا وإياكم . . . " الحديث أراد به : قال لقومنا ; لأن النزال بن سبرة الهلالي العامري الكوفي من كبار التابعين ، والأصح أنه لم ير النبي - عليه السلام - ، وذكره ابن حبان في "الثقات " من التابعين ، وقال العجلي : كوفي تابعي ثقة ، من كبار التابعين ، وروايته عن النبي - عليه السلام - مرسلة ، روى له الجماعة سوى مسلم ، الترمذي في "الشمائل " .

                                                وقد أخرج حديثه الطحاوي عن فهد بن سليمان وأبي زرعة عبد الرحمن بن عمرو الدمشقي حافظ الشام ، كلاهما عن أبي نعيم الفضل بن دكين الملائي الكوفي الأحول شيخ البخاري ، عن مسعر بن كدام الكوفي روى له الجماعة ، عن عبد الملك بن ميسرة الهلالي الكوفي الزراد روى له الجماعة . [ ص: 74 ] وكذلك روى عن طاوس بن كيسان اليماني أنه قال : "قدم علينا معاذ بن جبل فلم يأخذ من الخضروات شيئا " أراد به : قدم بلدتنا ; لأن طاوسا لم يدرك معاذا ، لأن معاذا توفي سنة ثماني عشر في طاعون عمواس بناحية الأردن ، وقبره بغور بيسان في شرقيه ، وكان عمره حين مات ثماني وثلاثين سنة ، ومولد طاوس بعد ذلك بزمان كثير ; لأن وفاته سنة إحدى ومائة ، وقيل : سنة ست ومائة بمكة ، وكان عمره بضعا وسبعين سنة .

                                                وأخرجه الطحاوي معلقا ، وكذلك روي عن الحسن البصري أنه قال : "خطبنا عتبة بن غزوان " وأراد به خطبته بالبصرة ، والحسن لم يكن بالبصرة حينئذ ; لأن قدومه إلى البصرة إنما كان قبل وقعة صفين بعام واحد .

                                                أخرج ذلك عن إبراهيم بن أبي داود البرلسي ، عن يوسف بن عدي بن زريق الكوفي شيخ البخاري ، عن عبد الله بن إدريس الأودي ، عن شعبة بن الحجاج ، عن أبي رجاء عمران بن ملحان العطاردي ، وكل هؤلاء أئمة أثبات .

                                                واعلم أن الحسن البصري ولد بالمدينة لسنتين بقيتا من خلافة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، وأمه خيرة مولاة أم سلمة زوج النبي - عليه السلام – عليه السلام ، واسم أبيه يسار ، يقال : إنه من ميسان ، وقع إلى المدينة فاشترته الربيع بنت النضر عمة أنس بن مالك فأعتقته ، ونشأ الحسن بوادي القرى ، وكان فصيحا ، رأى علي بن أبي طالب ، وطلحة بن عبيد الله ، وعائشة ، ولم يصح له سماع منهم ، وحضر يوم الدار وله أربع عشرة سنة ، وقال ابن حبان في كتاب "الثقات " : احتلم الحسن سنة سبع وثلاثين ، وخرج من المدينة ليالي صفين ولم يلق عليا - رضي الله عنه - ، وقد أدرك بعض صفين ، ورأى مائة وعشرين من أصحاب رسول الله - عليه السلام - وما شافه بدريا قط إلا عثمان بن عفان ، وعثمان لم يشهد بدرا ، مات في شهر رجب سنة عشر ومائة ، وقد ذكر أبو رجاء العطاردي ، عن الحسن أنه قال : "قدمت البصرة قبل صفين بعام وكانت وقعة صفين سنة سبع وثلاثين من الهجرة ، ثم إن الحسن لقي عتبة بن غزوان - رضي الله عنه - ولكن لم يحضر خطبته ; لأن خطبته كانت بالبصرة قبل قدوم الحسن إليها ; وذلك لأنه هو [ ص: 75 ] الذي اختط البصرة ، وأول من نزلها في أيام عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - ، ومات سنة سبع عشرة بطريق البصرة وهو ابن سبع وخمسين سنة ، وقيل : مات بالربذة سنة خمس عشرة ، وقيل : سنة أربع عشرة ، وقيل : سنة عشرين ، والله أعلم .

                                                وقال الترمذي : لا نعرف للحسن سماعا من عتبة بن غزوان بن جابر المازني - رضي الله عنه - .



                                                الخدمات العلمية