الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                صفحة جزء
                                                2840 2841 2842 2843 ص: حدثنا ابن مرزوق ، قال : ثنا ابن وهب ، قال : أخبرني مالك ، عن ابن شهاب ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : " أن رسول الله - عليه السلام - نعى للناس النجاشي في اليوم الذي مات فيه ، ثم خرج إلى المصلى فصف بهم وكبر عليه أربع تكبيرات " .

                                                حدثنا ابن أبي داود ، قال : ثنا عبد الله بن صالح ، قال : حدثني الليث ، قال : حدثني عقيل ، عن ابن شهاب ، قال : أخبرني سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله - عليه السلام - مثله .

                                                حدثنا أبو بشر الرقي ، قال : ثنا شجاع ، عن عبيد الله بن عمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن بعض أصحاب النبي - عليه السلام - مثله .

                                                [ ص: 340 ]

                                                التالي السابق


                                                [ ص: 340 ] ش: هذه ثلاثة أسانيد رجالها كلهم رجال الصحيح ما خلا مشايخ الطحاوي .

                                                وأبو بشر الرقي عبد الملك بن مروان ، وابن شهاب هو محمد بن مسلم الزهري ، وعقيل -بضم العين- بن خالد الأيلي ، وشجاع هو ابن الوليد بن قيس السكوني ، وعبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطاب العمري المدني .

                                                وحديث أبي هريرة أخرجه الجماعة :

                                                فالبخاري : عن عبد الله بن يوسف ، عن مالك . . . إلى آخره نحوه .

                                                ومسلم : عن يحيى بن يحيى ، عن مالك .

                                                وأبو داود : عن القعنبي ، عن مالك .

                                                والنسائي : عن قتيبة ، عن مالك .

                                                والترمذي : عن أحمد بن منيع ، عن إسماعيل بن إبراهيم ، قال : نا معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة : "أن النبي - عليه السلام - صلى على النجاشي فكبر أربعا " .

                                                وابن ماجه : عن أبي بكر بن أبي شيبة ، نا عبد الأعلى ، عن معمر ، عن الزهري ، عن سعيد بن المسيب ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله - عليه السلام - قال : "إن النجاشي قد مات ، فخرج رسول الله - عليه السلام - وأصحابه إلى البقيع ، فصفنا خلفه ، وتقدم رسول الله - عليه السلام - فكبر أربع تكبيرات " . [ ص: 341 ] قوله : "نعى للناس " فعل ماض من النعي وهو خبر الموت ، والناعي الذي يأتي بخبر الموت ، والنعي -بفتح النون وكسر العين المهملة وتشديد الياء ، وقيل بسكون العين وتخفيف الياء لغتان والتشديد أشهر كذا ذكره النووي .

                                                وفي "المحكم " : النعي الدعاء بموت الميت والإشعار به ، نعاه ينعاه نعيا ونعيانا ، والنعي المنعي والناعي ، وقال الجوهري : النعي خبر الموت ، وكذلك النعي على فعيل ، وفي "الواعي " : النعي على فعيل هو نداء الناعي ، والنعي أيضا هو الرجل الذي ينعى ، والنعي الرجل الميت ، والنعي الفعل ، ويجوز أن يجمع النعي نعايا مثل صفي وصفايا ; ذكره الهروي وغيره .

                                                وتفسير النجاشي قد مر .

                                                قوله : "في اليوم الذي مات فيه " قد ذكرنا أنه مات في سنة تسع ، منصرفه من تبوك قاله ابن سعد ، وقال السهيلي : توفي النجاشي في رجب سنة تسع من الهجرة .

                                                قوله : "إلى المصلى " بضم الميم ، وهو الموضع الذي كان - عليه السلام - يصلي فيه العيد .

                                                ويستفاد منه أحكام :

                                                الأول : أن التكبير على الجنازة أربع تكبيرات .

                                                الثاني : فيه استحباب اصطفاف الناس وراء الإمام في صلاة الجنازة .

                                                الثالث : أن صلاة الجنازة ينبغي أن تقام في مصلى البلد ولا تصلى في المسجد .

                                                وقال أبو عمر : فيه أن السنة أن تخرج الجنائز إلى المصلى ليصلى عليها هناك ، وفي ذلك دليل على أن صلاته على سهيل بن بيضاء في المسجد إباحة وليس بواجب .

                                                قلت : بل فيه دليل على أن صلاته في المسجد كانت لضرورة أو انتسخت كما ذكرنا .

                                                الرابع : فيه إباحة النعي . [ ص: 342 ] قال أبو عمر : فيه إباحة الإشعار بالجنازة والإعلام بها والاجتماع لها ، وهذا أقوى من حديث حذيفة : "أنه كان إذا مات له ميت قال : لا تؤذنوا به أحدا ; فإني أخاف أن يكون نعيا ، فإني سمعت رسول الله - عليه السلام - نهى عن النعي " . وإلى هذا ذهب جماعة من السلف .

                                                فإن قيل : حديث حذيفة حسنه الترمذي .

                                                وجاء عن ابن مسعود أيضا قال : قال رسول الله - عليه السلام - : "إياكم والنعي ، فإن النعي من عمل الجاهلية ، قال عبد الله : والنعي أذان بالميت " .

                                                قال أبو عيسى : هذا حديث غريب .

                                                قال البيهقي : ويروى النهي أيضا عن ابن عمر وأبي سعيد وسعيد بن المسيب وعلقمة وإبراهيم النخعي والربيع بن خثيم .

                                                وفي "المصنف " : وأبي وائل وأبي ميسرة وعلي بن الحسن وسويد بن غفلة ومطرف بن عبد الله ونصر بن عمران أبي حمزة .

                                                قلت : التوفيق بين الحديثين : أن حديث النجاشي لم يكن نعيا ، إنما كان مجرد إخبار بموته ، فسمي نعيا لتشبهه به في كونه إعلاما ، وكذا يقال في جعفر بن أبي طالب وأصحابه .

                                                قال ابن بطال : إنما نعى - عليه السلام - النجاشي وصلى عليه ; لأنه كان عند بعض الناس على غير الإسلام ، فأراد إعلامهم بصحة إسلامه . [ ص: 343 ] وفيه نظر ; لنعيه - عليه السلام - جعفرا وأصحابه .

                                                وحمل بعضهم النعي على نعي الجاهلية المشتمل على ذكر المفاخر وشبهها ، وأيضا فحذيفة لم يجزم بكون الإعلام نعيا ، إنما قال : أخاف أن يكون نعيا .

                                                وفي "المهذب " لأبي إسحاق : يكره نعي الميت والنداء عليه للصلاة وغيرها ، وذكر الصيدلاني وجها أنه لا يكره ، وقيل : لا يستحب ، وقال بعضهم : يستحب ذلك للغريب لا لغيره ، وبه قال ابن عمر .

                                                وقال ابن الصباغ : يكره النداء ولا بأس بتعريف أصدقائه ، وهو قول أحمد بن حنبل ، وقال أبو حنيفة : لا بأس به .

                                                وقال ابن قدامة : ويكره النعي وهو أن يبعث مناديا ينادي في الناس : إن فلانا مات ليشهدوا جنازته ، واستدل بحديث حذيفة ، ثم قال : واستحب جماعة من أهل العلم أن لا يعلم الناس بجنائزهم منهم عبد الله بن مسعود وأصحابه وعلقمة والربيع بن خثيم وعمرو بن شرحبيل .

                                                وقال كثير من أهل العلم : لا بأس أن يعلم بالرجل إخوانه ومعارفه وذوو الفضل من غير نداء . والله أعلم .

                                                الخامس : فيه الصلاة على الغائب ، استدل بذلك الشافعي وأحمد في رواية على جواز الصلاة على الغائب ، قال النووي : فإن كان الميت في بلد فالمذهب أنه لا يجوز أن يصلى عليه حتى يحضر عنده وقيل يجوز وفي الرافعي : ينبغي أن لا يكون بين الإمام والميت أكثر من مائتي ذراع أو ثلاثمائة تقريبا ، وفي "المغني " : وتجوز الصلاة على الغائب في بلد آخر بالنية فيستقبل القبلة ويصلي عليه كصلاته على حاضر ، وسواء كان الميت في جهة القبلة أو لم يكن ، وسواء كان بين البلدين مسافة القصر أو لم يكن ، وبهذا قال الشافعي .

                                                وقال مالك وأبو حنيفة : لا يجوز ، وحكى ابن أبي موسى عن أحمد رواية أخرى كقولهما . انتهى . [ ص: 344 ] وقال الخطابي : النجاشي رجل مسلم قد آمن برسول الله - عليه السلام - وصدقه على نبوته ، إلا أنه كان يكتم إيمانه ، والمسلم إذا مات وجب على المسلمين أن يصلوا عليه ، إلا أنه كان بين ظهراني أي أهل الكفر ولم يكن بحضرته من يقوم بحق الصلاة عليه ; فلزم رسول الله - عليه السلام - أن يفعل ذلك إذ هو نبيه ووليه وأحق الناس به ; فهذا والله أعلم هو السبب الذي دعاه إلى الصلاة عليه بظهر الغيب ، فعلى هذا إذا مات المسلم ببلد من البلدان وقد قضى حقه من الصلاة عليه فإنه لا يصلى عليه من كان ببلد آخر غائبا عنه ، فإن علم أنه لم يصل عليه لعائق أو مانع عذر كانت السنة أن يصلى عليه ، ولا يترك ذلك لبعد المسافة ، فإذا صلوا عليه استقبلوا القبلة ولم يتوجهوا إلى بلد الميت إن كان في غير جهة القبلة ، وقد ذهب بعض العلماء إلى كراهة الصلاة على الميت الغائب ، وزعموا أن النبي - عليه السلام - كان مخصوصا بهذا الفعل ; إذ كان في حكم المشاهد للنجاشي ; لما روي في بعض الأخبار أنه قد سويت له الأرض حتى تبصر مكانه ، هذا تأويل فاسد لأن رسول الله - عليه السلام - إذا فعل شيئا من أفعال الشريعة كان علينا متابعته والاتساء به ، والتخصيص لا يعلم إلا بدليل ، ومما يبين ذلك : أنه - عليه السلام - خرج بالناس إلى المصلى فصف بهم ، فصلوا معه فعلم أن هذا التأويل فاسد .

                                                قلت : هذا التشنيع كله على الحنفية والمالكية ، ولكن من غير توجيه ، فنقول ما يبين لك فساد كلامه ، وهو أن النبي - عليه السلام - رفع له سرير النجاشي فرآه فتكون الصلاة عليه كميت يراه الإمام ولا يراه المأموم .

                                                وقد قال أبو عمر بن عبد البر : وأكثر أهل العلم يقولون : هذا خصوص للنبي - عليه السلام - بأن أحضر روح النجاشي بين يديه حيث شاهده وصلى عليه ، أو رفعت له جنازته كما كشف له عن بيت المقدس حين سألته قريش عن صفته .

                                                وقد روي : "أن جبريل - عليه السلام - أتاه بروح جعفر أو جنازته ، وقال : قم فصل عليه " . فهذا وما كان مثله يدل على الخصوصية . [ ص: 345 ] وروى ابن حبان في "صحيحه " : في النوع الحادي والأربعين من القسم الخامس من حديث عمران بن الحصين أن النبي - عليه السلام - قال : "إن أخاكم النجاشي توفي فقوموا صلوا عليه ، فقام رسول الله - عليه السلام - وصلوا خلفه فكبر أربعا وهم لا يظنون إلا أن جنازته بين يديه " .

                                                وقال المهلب : ومما يدل على الخصوصية : أنه لم يصل على أحد من المسلمين ومتقدمي المهاجرين والأنصار الذين ماتوا في أقطار البلدان ، وعلى هذا جرى عمل المسلمين ; لأن الصلاة عليها من فروض الكفاية يقوم بها من صلى على الميت في البلد الذي يموت بها ، ولم يكن بحضرة النجاشي مسلم ، يصلي عليه .

                                                قلت : قد مات خلق كثير من الصحابة - رضي الله عنهم - في حياة النبي - عليه السلام - وهم غائبون عنه وسمع بهم فلم يصلي عليهم إلا ثلاثة أنفس :

                                                أحدهم : معاوية بن معاوية المزني ، ورد أنه طويت له الأرض حتى حضره .

                                                روى حديثه الطبراني في "معجمه الأوسط " ، وكتاب "مسند الشاميين " : ثنا علي بن سعيد الرازي ، ثنا نوح بن عمر بن حوي السكسكي ، ثنا بقية بن الوليد ، عن محمد بن زياد الألهاني ، عن أبي أمامة قال : "كنا مع رسول الله - عليه السلام - بتبوك ، فنزل عليه جبريل - عليه السلام - فقال : يا رسول الله ، إن معاوية بن معاوية المزني مات بالمدينة ، أتحب أن تطوى لك الأرض فتصلي عليه ؟ قال : نعم ، فضرب بجناحه على الأرض ، ورفع له سريره فصلى عليه وخلفه صفان من الملائكة في كل صف سبعون ألف ملك ، ثم رجع وقال النبي - عليه السلام - لجبريل - عليه السلام - بم أدرك هذا ، قال : لحبه سورة قل هو الله أحد وقراءته إياها ، جائيا وذاهبا ، وقائما وقاعدا ، وعلى كل حال " . [ ص: 346 ] ورواه ابن سعد في "الطبقات " في ترجمة معاوية بن معاوية المزني- قال : ويقال : الليثي -من حديث أنس فقال : أنا يزيد بن هارون ، ثنا العلاء أبو محمد الثقفي ، سمعت أنس بن مالك قال : "كنا مع رسول الله - عليه السلام - . . . " فذكر نحوه .

                                                أخبرنا عثمان بن الهيثم البصري ، ثنا محبوب بن هلال المزني ، عن ابن أبي ميمونة ، عن أنس ، وذكر نحوه .

                                                وبسند ابن سعد الأول رواه البيهقي وضعفه .

                                                قال النووي في "الخلاصة " : والعلاء بن زيد ويقال : ابن يزيد اتفقوا على ضعفه ، قال البخاري وابن عدي وأبو حاتم : هو منكر الحديث . قال البيهقي : وروي من طرق أخرى ضعيفة .

                                                والثاني والثالث : زيد بن حارثة وجعفر بن أبي طالب - رضي الله عنهما - ورد أنه كشف له عنهما .

                                                أخرجه الواقدي في كتاب "المغازي " فقال : حدثني محمد بن صالح ، عن عاصم بن عمر بن قتادة .

                                                وحدثني عبد الجبار بن عمارة ، عن عبد الله بن أبي بكر قالا : "لما التقى الناس بمؤتة جلس النبي - عليه السلام - على المنبر وكشف له ما بينه وبين الشام ، فهو ينظر إلى معتركهم ، فقال - عليه السلام - : أخذ الراية زيد بن حارثة فمضى حتى استشهد فصلى عليه ودعا له ، وقال : استغفروا له وقد دخل الجنة وهو يسعى ، ثم أخذ الراية جعفر بن أبي طالب - رضي الله عنه - فمضى حتى استشهد فصلى عليه رسول الله - عليه السلام - ودعا له ، وقال : استغفروا له وقد دخل الجنة فهو يطير فيها بجناحين حيث يشاء .

                                                وهو مرسل من الطريقين المذكورين .




                                                الخدمات العلمية