الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما كونها أم ولد فمعتبر بحال الولد ، فإن لم يلحق به لم تصر له أم ولد ، وإن لحق به الولد ، فهل تصير أم ولد أم لا ؟ على قولين :

                                                                                                                                            أحدهما - وهو المنصوص عليه في هذا الموضع - : أنها تعتبر له أم ولد ، وبه قال الربيع .

                                                                                                                                            والقول الثاني - وهو المنصوص عليه في الدعوى والبينات - : أنها لا تصير أم ولد . وبه قال المزني .

                                                                                                                                            فإذا قيل بالأول إنها تصير أم ولد - وهو اختيار الربيع ، وجمهور أصحابنا - فوجهه هو أنه لما لحق به ولدها بشبهة الملك كلحوقه به في المالك وجب أن تصير له أم ولد بشبهة الملك ، كما تصير له أم ولد بالملك .

                                                                                                                                            وإذا قيل بالثاني : إنها لا تصير أم ولد - وهو اختيار المزني - فوجهه أنه أولدها في غير ملك ، فلم تصر به أم ولد ، وإن عتق الولد كالغارة التي يتزوجها بشرط الحرية ، فتكون أمة ، فإن ولده منها حر ولا تصير له أم ولد .

                                                                                                                                            فأما المزني فإنه استدل بصحة هذا القول بثلاثة أشياء : أحدها : أن قال : قد أجاز الشافعي للابن أن يزوج أباه بأمته ، ولو أولدها هذا الوطء الحلال لم تصر به أم ولد ، فكيف تصير أم ولد بوطء حرام ؟

                                                                                                                                            والثاني : أن قال : ليس الأب شريكا فيها فيكون كوطء أحد الشريكين إذا كان موسرا ، فتصير به إذا أولدها أم ولد : لأن الشريك مالك ، وليس للأب ملك .

                                                                                                                                            والثالث : أن قال : لما لم تصر به أم ولد للشريك إذا كان معسرا وله ملك فلان لا تصير به أم ولد للأب ، وليس له ملك أولى ، فانفصل أصحابنا عن استدلال المزني ، ترجيحا للقول الأول .

                                                                                                                                            فإن قالوا : أما استدلاله الأول بأن للابن أن يزوج أباه بأمته ، ولا تصير بالإحبال أم ولد فمدفوع عنه ، واختلفوا في سبب دفعه عنه ، فكان أبو العباس بن سريج ، وأبو إسحاق المروزي ينسبان المزني إلى السهو والغفل في نقله ، وإنه غلط في تزويجه لجارية أبيه إلى تزويجه لجارية ابنه ، ومنعوا أن يتزوج الأب بجارية الابن ، وإن حل للابن أن يتزوج بجارية الأب ، وإن الشافعي قد قال ذلك نصا في " الدعوى والنيات " لأن على الابن أن يعف أباه ، فلم يجز أن يزوجه بأمته ، وليس على الأب أن يعف ابنه فجاز أن يزوجه بأمته ، وإنما كان وجوب إعفافه على الابن يمنعه من التزويج بأمة الابن : لأن الحر لا يجوز له أن ينكح الأمة إلا بشرطين : عدم الطول ، وخوف العنت ، فإن كان الأب موسرا لم يعدم الطول ، وإن كان معسرا صار بوجوب إعفافه على الابن واجدا للطول ، فعلى هذا استدلاله مدفوع بغلطه ، وقال [ ص: 180 ] آخرون : بل نقل المزني صحيح في تزويج الأب بجارية ابنه ، ثم اختلفوا في صحة هذا النقل على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه عام في جواز تزويجه بها ، وأنه قول ثان للشافعي أنه لا يلزم الابن إعفاف أبيه كما لا يلزم الأب إعفاف ابنه .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أنه جوز تزويجه بها في موضع مخصوص لا على العموم ، وإن كان إعفافه على الابن واجبا ، ومن قال بهذا اختلفوا في موضع الخصوص الذي يجوز فيه تزويجه بها على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن أباه كان مملوكا فزوجه بأمته : لأن إعفافه لا يجب عليه ، ولو كان حرا لم يجز .

                                                                                                                                            والثاني : أن الابن كان معسرا لا يملك غير الأمة وهو إليها محتاج فزوجه بأمته : لأنه معسر لا يجب عليه إعفاف أبيه ، ولو كان موسرا لم يجز ، فعلى هذا إذا كان له على هذا الوجه المخصوص أو على ما تقدم من الوجه العام فتزويج أبيه بأمته لم تصر بإحبال الأب أم ولد ، فإن صارت بإحباله لها في غير نكاح أم ولد .

                                                                                                                                            والفرق بينهما أنه إذا وطئها بشبهة الملك من غير نكاح كان الولد حرا ، فانتشرت حرمته ، وتعدت إلى أمه ، فصارت به أم ولد ، وإذا وطئها في نكاح كان الولد مملوكا ليس له حرمة حرية تقعد إلى الأم ، فلم تصر به أم ولد .

                                                                                                                                            وأما استدلاله الثاني : في أنه ليس بمالك ، فخالف الشريك المالك فهو محجوج به : لأنه لما صارت حصة غير الواطئ أم ولد للواطئ ، وليست ملكا له ولا له فيها شبهة ملك ، فلأن تصير جارية الابن أم ولد للأب : لأن له فيها شبهة ملك وإن لم يكن له فيها ملك أولى .

                                                                                                                                            وأما استدلاله الثالث : بأنه لما لم تصر حصة الشريك باعتبار الواطئ أم ولد للشريك الواطئ وله ملك ، فلأن لا تصير للأب الذي ليس له ملك أولى ، فهو خطأ : لأن إعسار الأب مخالف لإعسار الشريك : لأن الأب تقوى شبهته بإعساره لوجوب إعفافه والشريك تضعف شبهته بإعساره في أنه لا يتعدى عتقه إلى حصة الشريك ، ثم يسار الأب مخالف ليسار الشريك : لأن الأب لا يخل عفافه ليساره ، والشريك يتعدى عتقه إلى حصة شريكه ليساره ، فصار إعسار الأب مساويا ليسار الشريك لا لإعساره ، وقد ثبت أن يساره موجب لكونها أم ولد فكذلك الأب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية