الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : [ القول في أقل الصداق ]

                                                                                                                                            فأما أقل الصداق فقد اختلف فيه الفقهاء ، فمذهب الشافعي رحمه الله : أنه غير مقدر ، أن كل ما جاز أن يكون ثمنا أو مبيعا أو أجرة أو مستأجرا ، جاز أن يكون صداقا ، قل أو كثر .

                                                                                                                                            وبه قال من الصحابة : عمر بن الخطاب ، وعبد الله بن عباس ، حتى قال عمر في ثلاث قبضات زبيب مهر .

                                                                                                                                            وبه قال من التابعين : الحسن البصري ، وسعيد بن المسيب ، حتى حكي أن سعيدا زوج بنته على صداق درهمين .

                                                                                                                                            وبه قال من الفقهاء : ربيعة ، والأوزاعي ، والثوري وأحمد ، وإسحاق .

                                                                                                                                            وقال مالك : أقل الصداق ما تقطع فيه اليد : ربع دينار ، أو ثلاثة دراهم ، وقال ابن شبرمة : أقله خمسة دراهم ، أو نصف دينار .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة وأصحابه : أقله دينار أو عشرة دراهم ، فإن عقده بأقل من عشرة ، صحت التسمية ، وكملت عشرة ، ومنعت من مهر المثل ، إلا زفر وحده فإنه أبطل التسمية وأوجب مهر المثل .

                                                                                                                                            وقال إبراهيم النخعي : أقله أربعون درهما .

                                                                                                                                            وقال سعيد بن جبير : أقله خمسون درهما .

                                                                                                                                            واستدل أبو حنيفة بقول الله تعالى : وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين [ النساء : 24 ] ولا يطلق اسم الأموال على ما قل من الدانق والقيراط ، فلم يصح أن يكون ذلك ابتغاء بمال .

                                                                                                                                            وروى مبشر بن عبيد عن الحجاج بن أرطأة ، عن عطاء ، عن عمرو بن دينار ، عن جابر بن [ ص: 398 ] عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تنكحوا النساء إلا الأكفاء ، ولا يزوج إلا الأولياء ، ولا مهر أقل من عشرة دراهم . وهذا نص .

                                                                                                                                            ولأنه مال يستباح به عضو ، فوجب أن يكون مقدرا كالنصاب في قطع السرقة .

                                                                                                                                            ولأنه أحد بدلي النكاح ، فوجب أن يكون مقدرا كالبضع ، ولأن ما كان من حقوق العقد يقدر أقله كالشهود .

                                                                                                                                            ودليلنا قول الله تعالى : وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم [ البقرة : 237 ] .

                                                                                                                                            ومن الآية دليلان :

                                                                                                                                            أحدهما : عام ، وهو قوله : فنصف ما فرضتم فكان على عمومه من قليل أو كثير .

                                                                                                                                            والثاني : خاص ، وهو أنه إذا فرض لها خمسة دراهم ، وطلقها قبل الدخول اقتضى أن يجب لها درهمان ونصف ، وعند أبي حنيفة يجب لها الخمسة كلها ، وهذا خلاف النص .

                                                                                                                                            وروى عبد الرحمن بن البيلماني ، عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : أدوا العلائق ، قالوا : يا رسول الله ، وما العلائق ؟ قال : ما تراضى به الأهلون فكان على عمومه فيما تراضوا به من قليل وكثير .

                                                                                                                                            وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من استحل بدرهمين فقد استحل يعني فقد استحل بالدرهمين .

                                                                                                                                            روى أبو هارون العبدي ، عن أبي سعيد الخدري أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا جناح على امرئ أن يصدق امرأة ، قليلا أو كثيرا ، إذا أشهد وتراضوا .

                                                                                                                                            وروى عاصم بن عبيد الله ، عن عبد الله بن عامر بن ربيعة ، عن أبيه : أن امرأة تزوجت على نعلين ، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرضيت من نفسك ومالك بهاتين النعلين ؟ فقالت : نعم فأجازه .

                                                                                                                                            وروى أبو حازم عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل خطب منه المرأة التي بذلت نفسها له : التمس ولو خاتما من حديد .

                                                                                                                                            والخاتم من الحديد أقل الجواهر قيمة ، فدل على جواز القليل من المهر .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد يجوز أن يكون من حديد صيني يساوي عشرة دراهم ، ويكون ثمن النعلين عشرة دراهم .

                                                                                                                                            [ ص: 399 ] قيل : لو كان ذلك مخالفا للعرف المعهود ، لنقل ، وليس في العرف أن يساوي نعلان في المدينة ، وخاتم من حديد عشرة دراهم .

                                                                                                                                            على أن قوله : التمس ولو خاتما من حديد ، على طريق التقليل ، ولو أراد ما ذكروه من الصفة المتقدرة لكان عدوله إلى العشرة المقدرة أسهل وأفهم ، فبطل هذا التأويل .

                                                                                                                                            وروى يونس بن بكير ، عن صالح بن مسلم بن رومان عن أبي الزبير ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن رجلا أعطى امرأة صداقا ملء يديه طعاما كانت به حلالا .

                                                                                                                                            وروى قتادة ، عن عبد الله بن المؤمل ، عن جابر قال : إنا كنا لننكح المرأة على الحفنة أو الحفنتين من دقيق .

                                                                                                                                            وروى قتادة ، عن أنس بن مالك قال : تزوج عبد الرحمن بن عوف امرأة من الأنصار على وزن نواة من ذهب قومت ثلاثة دراهم .

                                                                                                                                            وهذه كلها نصوص لا يجوز خلافها .

                                                                                                                                            ويدل عليه من طريق القياس : هو أن كل ما صلح أن يكون ثمنا ، صلح أن يكون مهرا كالعشرة ، ولأنه عقد ثبت فيه العشرة عوضا ، فصح أن يثبت دونها عوضا كالبيع ، ولأنه عوض على إحدى منفعتيها فلم يتقدر قياسا على أجرة منافعها ، ولأن ما يقابل البضع من البدل لا يتقدر في الشرع كالخلع ، ولأن كل عوض لا يتقدر أكثره لا يتقدر أقله قياسا على جميع الأعواض ، ولا يدخل عليه الجزية : لأنها ليست عوضا .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن الآية فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدها : أن ظاهرها متروك بالإجماع : لأنه لو نكحها بغير مهر حلت .

                                                                                                                                            والثاني : أن ما دون العشرة مال ، ألا تراه لو قال : له علي مال ثم بين درهما أو دانقا قبل منه ، فدلت الآية على جوازه في المهر .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن حديث جابر فمن وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه ضعيف : لأنه رواية مبشر بن عبيد وهو ضعيف ، عن الحجاج بن أرطأة وهو مدلس .

                                                                                                                                            وقد روينا عن جابر من طريق ثابتة قولا مسندا وفعلا منتشرا ، ما ينافيه ، فدل على بطلانه .

                                                                                                                                            والجواب الثاني : أنه يستعمل إن صح في امرأة بعينها ، كان مهر مثلها عشرة ، فحكم لها فيه بالعشرة .

                                                                                                                                            [ ص: 400 ] وأما قياسهم على القطع في السرقة فقولهم : مال يستباح به البضع فاسد من أربعة أوجه .

                                                                                                                                            أحدها : أنه لا يستباح القطع في السرقة بالمال ، وإنما يستباح بإخراجه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو استبيح بالمال لما لزم رد المال ، ورد المال لازم .

                                                                                                                                            والثالث : أنه ليس يستباح به العضو ، وإنما يقطع به .

                                                                                                                                            والرابع : أن عقد النكاح لا يختص باستباحة عضو ، بل يستباح به جميع البدن ، فبطل التعليل بما قالوه .

                                                                                                                                            ثم المعنى في قطع السرقة أنه عن فعل كالجنايات ، فجاز أن يكون مقدرا كسائر الجنايات ، والمهر عوض في عقد مراضاة فلم يتقدر كسائر المعاوضات .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على ما في مقابلته من البضع المقدر ففاسد بالبدل في الخلع ، هو غير مقدر ، وإن كان في مقابلة بضع مقدر ، ثم المعنى في البضع أنه صار مقدرا : لأنه لا يتجزأ ، فصار مقدرا لا يزيد ولا ينقص ، والمهر يتجزأ ، فصح أن يزيد وصح أن ينقص .

                                                                                                                                            وأما قياسهم على الشهادة : فالمعنى فيها أنها من شروط العقد فتقدرت كما تقدرت بالزوج والولي ، وليس كالمهر الذي هو من أعواض المراضاة ، ولو تقدر لخرج أن يكون عن مراضاة .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية