الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما المجوس فقد اختلف الناس فيهم هل هم أهل الكتاب أم لا ؟ وعلق الشافعي القول فيهم ، وقال في موضع : هم أهل كتاب ، وقال في موضع : ليسوا أهل كتاب . فاختلف أصحابنا لاختلاف قول الشافعي : فكان بعضهم يخرجه على اختلاف قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لا كتاب لهم : لقوله تعالى : إنما أنزل الكتاب على طائفتين [ الأنعام : 156 ] يعني اليهود والنصارى ، فدل على أنه لا كتاب لغيرهما : ولأن عمر لما أشكل عليه أمرهم سأل الصحابة عنهم ، فروى له عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب فلما أمر بإجرائهم مجرى أهل الكتاب دل على أنه ليس لهم كتاب ، فعلى هذا القول يجوز قبول جزيتهم لهذا الحديث ، وأن عمر أخذ الجزية منهم بالعراق . وقد روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ الجزية من مجوس هجر . فأما أكل ذبائحم ونكاح نسائهم فلا يجوز : لعدم الكتاب فيهم .

                                                                                                                                            والقول الثاني فيهم : أنهم أهل كتاب : لأن الله تعالى يقول : من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد [ التوبة : 29 ] وقد ثبت أخذ الجزية منهم ، فدل على أنهم من أهل الكتاب ، وروي عن علي بن أبي طالب ، أنه قال : - وكانوا أهل كتاب - وإن ملكهم سكر فوقع على ابنته أو أخته فاطلع عليه بعض أهل مملكته ، فلما صحا جاءوا يقيمون عليه الحد ، فامتنع منهم ، فدعا آل مملكته ، فقال : " تعلمون دينا خيرا من دين آدم ، فقد كان آدم ينكح بنيه من بناته ، فأنا على دين آدم ما يرغب بكم عن دينه فبايعوه وخالفوا الدين ، وقاتلوا الذين خالفوهم حتى قتلوهم ، فأصبحوا وقد أسري على كتابهم ، فرفع من بين أظهرهم ، وذهب العلم الذي في [ ص: 225 ] صدورهم ، وهم أهل كتاب ، وقد أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما منهم الجزية " .

                                                                                                                                            فنكح الملك أخته ، وأمسكوا عن الإنكار عليه ، إما متابعة لرأيه ، وإما خوفا من سطوته ، فأصبحوا وقد أسري بكتابهم ، فعلى هذا القول يجوز إقرارهم بالجزية : وهل يجوز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم أم لا ؟ على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : يجوز لإجراء حكم الكتاب عليهم .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا يجوز : لأن طريق كتابهم الاجتهاد ، دون النص ، فقصر حكمه عن حكم النص .

                                                                                                                                            وقال آخرون من أصحابنا : ليس ما اختلف نص الشافعي عليه اختلاف قوليه فيه ، إنما هو على اختلاف حالين ، فالموضع الذي قال : إنهم أهل كتاب ، يعني في قبول الجزية وحدها : حقنا لدمائهم أن لا تستباح بالشك ، والموضع الذي قال : إنهم غير أهل الكتاب ، يعني في أن لا تؤكل ذبائحهم ، ولا تنكح نساؤهم . وهذا قول سائر الصحابة ، والتابعين ، والفقهاء .

                                                                                                                                            وخالف أبو ثور فجوز أكل ذبائحهم ، ونكاح نسائهم .

                                                                                                                                            وروى إبراهيم الحربي تحريم ذلك عن سبعة عشر صحابيا ، وقال : ما كنا نعرف خلافا فيه حتى جاءنا خلافا من الكرخ ، يعني خلاف أبي ثور : لأنه كان يسكن كرخ بغداد .

                                                                                                                                            واستدل أبو ثور على أكل ذبائحهم ، وجواز مناكحتهم بحديث عبد الرحمن بن عوف أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : سنوا بهم سنة أهل الكتاب قال : وقد تزوج حذيفة بن اليمان مجوسية بالعراق ، فاستنزله عنها عمر فطلقها ، فلو لم يجز لأنكر عليه ، ولفرق بينهما من غير طلاق : ولأن كل صنف جاز قبول جزيتهم جاز أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم كاليهود والنصارى ، قالوا : ولأن كتاب اليهود والنصارى نسخ ، وكتاب المجوس رفع ، ولا فرق بين حكم المنسوخ والمرفوع : فلما لم يمنع نسخ كتابي اليهود والنصارى من أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم لم يمنع رفع كتاب المجوس من ذلك . وهذا خطأ : لأن إبراهيم الحربي رواه عن سبعة عشر صحابيا لا يعرف لهم مخالفا ، فصار إجماعا : لأن من لم يتمسك بكتاب لم تحل ذبائحهم ونسائهم كعبدة الأوثان ، وليس للمجوس كتاب يتمسكون به كما يتمسك اليهود والنصارى بالتوراة والإنجيل ، فوجب أن يكون حكمهم مخالفا لحكمهم ، ولأن نكاح المشركات محظور بعموم النص ، فلم يجز أن يستباح باحتمال : ولأن عمر مع الصحابة توافقوا في قبول جزيتهم للشك فيهم ، فكيف يجوز مع هذا الشك أن يستبيح أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم .

                                                                                                                                            وقد كتب عمر بن عبد العزيز إلى الحسن البصري يسأله كيف أخذ الناس الجزية من المجوس ، وأقروهم على عبادة النيران ، وهم كعبدة الأوثان فكتب إليه الحسن ، إنما أخذوا منهم الجزية : لأن العلاء بن الحضرمي - وكان خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم على البحرين - أخذها [ ص: 226 ] منهم ، وأقرهم ، فدل على أنهم أفردوا من أهل الكتاب بأخذ الجزية وحدها ، فلذلك خصهما عمر بن عبد العزيز بالسؤال والإنكار ، فأما استدلاله بقوله : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب " فيعني به في أخذ الجزية لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه روى ذلك عند الشك في قبول جزيتهم .

                                                                                                                                            والثاني : أن الصحابة أثبتوا هذا الحديث في قبول جزيتهم ، ولم يجوزوا به أكل ذبائحهم ونكاح نسائهم .

                                                                                                                                            وأما تزويج حذيفة بمجوسية ، فالمروي أنها كانت يهودية ، ولو كانت مجوسية ، فقد استنزله عنها عمر فنزل ، ولو كانت تحل له لما استنزله عنها عمر ، ولما نزل عنها حذيفة ، وأما قياسه على اليهود والنصارى ، فالمعنى فيهم تمسكهم بكتابهم ، فثبت حرمته فيهم ، وليس كذلك المجوس .

                                                                                                                                            وأما قوله : إن حكم المرفوع والمنسوخ سواء ، فليس بصحيح : لأن المنسوخ باقي التلاوة فنفيت حرمته فيهم ، وليس كذلك المجوسي ، وأما المرفوع مرفوع التلاوة فارتفعت حرمته ، هذا الكلام فيمن له شبهة بكتاب من الصابئين والسامرة والمجوس .

                                                                                                                                            فأما من تمسك بصحف شيث ، أو زبور داود ، أو شيء من الصحف الأولى ، أو من زبر الأولين ، فلا يجري عليه حكم أهل الكتاب ، ويكونوا كمن لا كتاب له ، فلا تقبل لهم جزية ، ولا تؤكل لهم ذبيحة ، ولا تنكح فيهم امرأة لأمرين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن هذه الكتب مواعظ ووصايا ، وليس فيهما أحكام وفروض ، فخالفت التوراة والإنجيل .

                                                                                                                                            والثاني : ليست كلام الله ، وإنما هي وحي منه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم أتاني جبريل فأمرني أن آمر أصحابي ، أو من تبعني أن يرفعوا أصواتهم بالتلبية ، فكان ذلك وحيا من الله ، ولم يكن من كلامه ، فخرج عن حكم القرآن الذي تكلم به ، كذلك هذه الكتب ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية