الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي - رضي الله عنه - : " ولا خير في زبد غنم بلبن غنم : لأن الزبد شيء من اللبن ولا خير في سمن غنم بزبد غنم ، وإذا أخرج منه الزبد فلا بأس أن يباع بزبد وسمن " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح .

                                                                                                                                            وأصل هذا الفصل أن كل شيء كان متخذا من اللبن لم يجز بيعه بمثل ذلك من اللبن .

                                                                                                                                            فلا يجوز بيع اللبن الحليب بالزبد ، ولا بالسمن ، ولا بالجبن ، ولا بالمصل ، ولا بالأقط ، ولا بالمخيض : لأن في اللبن الحليب زبدا وسمنا وجبنا ومصلا وأقطا ومخيضا . والتماثل فيهما معدوم .

                                                                                                                                            قال الشافعي في تعليل المنع من بيع الزبد باللبن : لأن الزبد شيء من اللبن . واختلف أصحابنا في بيان هذا التعليل .

                                                                                                                                            فكان أبو إسحاق المروزي يقول : معناه أن في الزبد شيئا من اللبن يبقى فلا يخرجه إلا النار . فيؤدي ذلك إلى بيع اللبن باللبن متفاضلا .

                                                                                                                                            وقال جمهور أصحابنا : إن معناه أن في اللبن زبدا ، فيؤدي إلى بيع الزبد بالزبد متفاضلا . وهذا أصح المعنيين .

                                                                                                                                            لأن ما في الزبد من اللبن يسير غير مقصود .

                                                                                                                                            وفائدة هذا الخلاف تؤثر في بيع الزبد باللبن المخيض .

                                                                                                                                            فعلى قول أبي إسحاق لا يجوز بيع الزبد باللبن المخيض : لأن في الزبد لبنا .

                                                                                                                                            وعلى قول الجمهور يجوز ، وهو نص الشافعي : لأنه ليس في المخيض زبد . فأما بيع المخيض بالسمن فيجوز على كلا المذهبين : لأنه ليس في السمن لبن ولا في اللبن سمن .

                                                                                                                                            وأما بيع المخيض بالجبن أو المصل أو الأقط ، فلا يجوز على كلا المذهبين : لأن في كل واحد منهما لبنا .

                                                                                                                                            ولا يجوز بيع الجبن بالمصل ، ولا بيع الأقط بالجبن : لأن جميعه من لبن يعدم فيه التماثل .

                                                                                                                                            [ ص: 122 ] وهكذا ، لا يجوز بيع المخيض باللبن الحليب : لأن اللبن الحليب فيه زبد ، والمخيض لبن فيه ماء ، فعدم التماثل بينهما ، لكن يجوز بيع اللبن الحليب باللبن الرائب والحامض إذا لم يكن زبدهما ممخوضا : لأنه بيع لبن فيه زبد بلبن فيه زبد فصار كبيع الحليب بالحليب .

                                                                                                                                            وأما بيع الزبد بالسمن فلا يجوز : لما في الزبد من بقية اللبن التي تمنع من تماثله بالسمن . فهذا الكلام في بيع كل نوع من اللبن بنوع غيره .

                                                                                                                                            فصل : فأما بيع النوع الواحد بمثله :

                                                                                                                                            أما بيع اللبن الحليب باللبن الحليب فيجوز وقد مضى الكلام فيه .

                                                                                                                                            وأما بيع اللبن المخيض باللبن المخيض فلا يجوز ، لأن في المخيض ماء قد مخض به لإخراج الزبد منه يمنع من التماثل في اللبن بغير ماء ، فيجوز بيع لبنه بمثله ، إلا أن يكون طريق إخراج الزبد بغير ماء فيجوز بيع لبنه بمثله .

                                                                                                                                            فصل : وأما بيع الزبد بالزبد فقد اختلف أصحابنا في جوازه على وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز : لأن في الزبد لبنا باقيا يمنع من التماثل .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : وهو أصح عندي ، وبه قال ابن أبي هريرة ، أنه يجوز : لأن ما في الزبد من بقايا اللبن يسير غير مقصود فلم يمنع من بيع بعضه ببعض ، كالنوى في التمر ، وكما يجوز بيع الحليب بالحليب ، وإن كان فيهما زبد : لأن غير الزبد هو المقصود .

                                                                                                                                            فصل : فأما بيع السمن بالسمن فيجوز وإن صفي بالنار : لأن دخول النار فيه لتمييزه وتصفيته .

                                                                                                                                            فإن كان ذائبا لم يبع إلا كيلا ، وإن كان جامدا فعلى وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : لا يجوز بيع بعضه ببعض : لأن أصله الكيل .

                                                                                                                                            والثاني : يجوز وزنا : لأن الوزن أحصر والكيل فيه متعذر . والله أعلم .

                                                                                                                                            فصل : فأما بيع الجبن بالجبن فلا يجوز إن كان رطبا أو نديا ، فإن كان يابسا فعلى قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : رواه حرملة . يجوز بيعه إذا تناهى بنفسه وزنا لقيمة المماثلة فيه ، وأنه غاية اللبن التي ينتهي إليها ، وهو قول أبي إسحاق المروزي .

                                                                                                                                            والقول الثاني : رواه الربيع وهو الصحيح ، أن بيع بعضه ببعض لا يجوز ، واختلف أصحابنا في العلة المانعة من جوازه .

                                                                                                                                            فقال أبو العباس بن سريج : لأن أصله الكيل وهو فيه متعذر .

                                                                                                                                            وقال غيره : لأن فيه إنفحة تعمل بها تمنع من التماثل فيه فعلى هذا الودق الجبن حتى [ ص: 123 ] عمل فتوتا ، وصار ناعما جاز بيع بعضه ببعض على قول أبي العباس لإمكان كيله ، ولم يجز على قول غيره لبقاء الإنفحة فيه .

                                                                                                                                            فصل : وعلى ما ذكرنا ، لا يجوز بيع الزيت بالزيتون : لأن فيه ما به والتماثل معدوم ، وكذا لا يجوز بيع الشيرج بالسمسم ، ولا بيع دهن الجوز بالجوز ، ولا دهن اللوز باللوز .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : يجوز بيع الزيت بالزيتون إذا كان الزيت أكثر مما في الزيتون من الزيت ، وإن كان مثله أو أقل لم يجز : ليكون فاضل الزيت في مقابلة عصير الزيتون .

                                                                                                                                            وكذا يقول في بيع جميع الأدهان بأصولها ، وفيما ذكرنا دليل عليه . وأصل هذه المسألة إذا باع مد تمر ودرهما بمدي تمر وقد مضى الكلام فيه . فإن قيل : لم جوزتم بيع السمسم بالسمسم وربما كان دهن أحدهما أكثر من الآخر .

                                                                                                                                            قلنا : دهن السمسم قبل استخراجه تبع لأصله فلا اعتبار بزيادته ونقصه ، كما أن زبد اللبن قبل استخراجه تبع لأصله ، ولا يمنع من بيع بعضه ببعض مع جواز أن يكون زبد أحدهما أكثر . فأما إذا استخرج دهن السمسم وبقي كسبا وحده فقد حكي عن أبي علي بن أبي هريرة جواز بيع بعضه ببعض ، فجوز بيع الكسب بالكسب وزنا ، وهذا غير صحيح ، بل بيع الكسب بالكسب لا يجوز لأمور :

                                                                                                                                            منها : أن أصله الكيل ، والكيل فيه غير ممكن والوزن فيه غير جائز .

                                                                                                                                            ومنها : أن الكسب يختلف عصره ، فربما كان ما بقي من دهن أحدهما أكثر من الآخر ، فيؤدي إلى التفاضل فيه .

                                                                                                                                            ومنها : أن في الكسب ماء وملحا لا يمكن استخراج الدهن إلا بهما ، وذلك يمنع من المماثلة .

                                                                                                                                            فأما بيع طحين السمسم بطحين السمسم قبل استخراج الدهن منهما ، فلا يجوز باتفاق أبي علي بن أبي هريرة : لأنه ربما كان طحن أحدهما أنعم من الآخر كما قيل في الدقيق ، وهذا حجة عليه في بيع الكسب بالكسب : إذ أصله الكيل وطحنه مختلف .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية