الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وإن كان اختلافهما في صفة العقد دون أصله فعلى ضربين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن يكون اختلافهما فيما يخلو منه العقد كاختلافهما في قدر الثمن أو في صفته أو في قدر المثمن أو في صفته .

                                                                                                                                            [ ص: 297 ] والضرب الثاني : أن يكون اختلافهما مما قد يخلو منه العقد ، كاختلافهما في الأجل أو في قدره ، أو في الخيار أو في قدره ، أو في الرهن أو في قدره ، أو في الضمين أو في عينه .

                                                                                                                                            فأما الضرب الأول : وهو أن يكون اختلافهما فيما لا يخلو منه العقد من قدر الثمن أو صفته أو قدر المثمن أو صفته ، فالاختلاف في قدر الثمن أن يقول البائع : بعتك هذا العبد بألف درهم ويقول المشتري : بخمسمائة . والاختلاف في صفته أن يقول البائع : بدراهم صحاح ، ويقول المشتري : بمكسرة ، أو يقول البائع : بدراهم بيض ويقول المشتري : بدراهم سود ، والاختلاف في قدر المثمن أن يقول البائع : بعتك العبد بألف ، ويقول المشتري : بل بعتني كذا بألف ، أو يقول البائع بعتك هذا كذا من طعام بألف ، فيقول المشتري : بل بعتني العبد مع الفرس بألف . والاختلاف في صفة المثمن ، أن يقول : أسلمت إليك درهما في طعام ميساني ، فيقول : بل في طعام شامي ، أو في ثياب مروي ، فيقول : بل في مروي ، فإذا كان اختلافهما فيما ذكرت فقد اختلف الفقهاء في العقد على خمسة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب شريح والشعبي ، أن يقول فيه قول البائع : لأن المبيع على ملكه .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني وهو مذهب أبي ثور وداود ، أن القول قول المشتري اعتبارا ببراءة ذمته .

                                                                                                                                            والمذهب الثالث : وهو مذهب مالك ، أن القول قول من الشيء في يده ، لأن فيه دلالة على ملكه .

                                                                                                                                            والمذهب الرابع : وهو مذهب أبي حنيفة ، أنه إن كانت السلعة تالفة فالقول قول المشتري ، وإن كانت باقية بحالها تحالفا .

                                                                                                                                            والمذهب الخامس : وهو مذهب الشافعي ، يتحالفان بكل حال سواء كانت السلعة قائمة أو تالفة ، ولا اعتبار باليد إلا أن يكون تلفها قبل القبض فإن ذلك مبطل للعقد .

                                                                                                                                            واستدل أبو حنيفة على أن تلف السلعة يمنع من التحالف ، ويوجب قبول قول المشتري ، بما روى ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إذا اختلف المتبايعان ولا بينة لواحد منهما والسلعة قائمة تحالفا أو ترادا " فشرط في التحالف بقاء السلعة ، فاقتضى انتقاء التحالف مع تلف السلعة ، وقال : ولأنه فسخ ثبت مع بقاء المبيع فوجب أن يسقط مع تلفه ، كالرد بالعيب . قال : ولأنه مبيع تلف عن عقد صحيح ، فوجب أن ينتفي عنه الفسخ أصله إذا تلف المبيع في خيار الثلاث بعد لزوم العقد ، وبطل أن يستحق مع تلفه الفسخ قال : ولأن المبيع إذا قبض بالقيمة فهو مضمون على مشتريه بالثمن ، فلو جاز تحالفه بعد الثمن لصار مضمونا عليه بالقيمة دون الثمن ، وهذا مما ينافي ضمان العقد .

                                                                                                                                            والدلالة على صحة ما ذهبنا إليه من تحالفهما مع بقاء السلعة وتلفها ما روي عن [ ص: 298 ] النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " البينة على من ادعى واليمين على من أنكر " وكل واحد من المتابيعين منكر ومدع : لأن البائع يقول : بعت بألف ولم أبع بخمسمائة ، والمشتري يقول : اشتريته بخمسمائة ولم أشتره بألف . صح ذلك أن كل واحد منهما يجوز أن يقيم البينة ، والبينة لما تسمع من المدعي دون المنكر ، فدل على أن كل واحد منهما مدع بما يجوز أن يتحالفا مع بقاء السلعة بوفاق أبي حنيفة ، واليمين عند أبي حنيفة إنما تكون على المنكر دون المدعي فثبت كل واحد منهما منكر ، فصار كل واحد منهما مدعيا منكرا فوجب أن يتحالفا . ويدل على ذلك أيضا الحديث الذي رواه الشافعي ، عن ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا اختلف البيعان فالقول قول البائع والمبتاع بالخيار " ولم يفرق بين بقاء السلعة وتلفها . فإن قيل : فقد شرط بقاء السلعة في التحالف في الخبر الآخر ، فصار هذا الإطلاق محمولا على ذلك التقييد ، كما حملتم إطلاق العتق في كفارة الظهار على التقييد العتق في كفارة القتل ؟ قيل : ليس هذا من المقيد الذي يحمل إطلاق جنسه عليه : لأن إطلاق خبرنا إنما يوجب تحالفهما مع بقاء السلعة وتلفها ، فصار قوله والسلعة قائمة بعض ما تناوله إطلاق خبرنا ، وذلك لا يوجب التخصيص : لأنه لا ينافيه . فإن قيل : فما الفائدة من قوله إذا اختلفا والسلعة قائمة تحالفا مع استواء الحكم في قيامها وتلفها . قيل : يحتمل وجوها :

                                                                                                                                            أحدها : التنبيه على حكم التحالف مع التلف : لأن بقاء السلعة يمكن معه اعتبار قيمتها ، فيغلب به قول من كانت دعواه أقرب إليه ، ومع التلف لا يمكن ، فلما أسقط اعتبار هذا وأوجب التحالف مع قيام السلعة كان وجوب التحالف مع تلفها أولى .

                                                                                                                                            والثاني : أنه نص على بقاء السلعة إسقاطا لاعتبار اليد بخلاف قول مالك حتى إذا تحالفا مع وجود اليد كان تحالفهما مع زوال اليد أولى .

                                                                                                                                            والثالث : أنه نص على بقاء السلعة : لأن تلفها قد يكون مبطلا للعقد إذا كان قبل القبض ، وبقاؤها ليس يبطل معه العقد فيتحالفان مع بقائها ولا يتحالفان مع تلفها ، فإن قيل : فلا دلالة لكم في هذا الخبر : لأنه جعل القول فيه قول البائع ، وأنتم لا تقولون به . قيل : قد جعل المشتري بعد بالخيار ، ومن جعل القول قول البائع على الإطلاق لم يجعل للمشتري خيارا وإذا ثبت خيار المشتري بعد يمين البائع فخياره في قبول السلعة بما حلف عليه البائع ، أو يحلف بعده ويفسخ البيع ، وكذا القول في تحالفهما وإنما خص النبي صلى الله عليه وسلم البائع بالذكر لأنه المبتدئ باليمين . ويدل على المسألة من طريق المعنى أنه اختلاف في صفة عقد بيع صحيح فاقتضى أن يوجب التحالف .

                                                                                                                                            أصله إذا كانت السلعة قائمة . ولأن ما يوجب فسخ العقد يستوي فيه الباقي والتالف كالاستحقاق . ولأنه فسخ لا يفتقر إلى تراضيهما فإذا صح مع تراد الأعيان صح مع تراد القيم [ ص: 299 ] أصله إذا اشترى عبدا بجارية وتقابضا ، ثم تلفت الجارية ووجد بالعبد عيبا ، فله رده بالعيب واسترجاع قيمة الجارية لفسخ العقد بعد تلفها ، كما كان له فسخه مع بقائها .

                                                                                                                                            فأما الجواب عن استدلالهم بحديث ابن مسعود رضي الله عنه فقد مضى في معارضة خبرنا .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسه على الرد بالعيب ، فالمعنى فيه أن العيب فيما تلف يقدر على استدراك ظلامته بالأرش فلم يفسخ وليس كذلك في اختلافهما : لأن كل واحد منهما لا يقدر على استدراك ظلامته إلا بالتحالف فجاز أن يتحالفا مع التلف . ولا وجه لقول إن السلعة بعد تلفها لا تقبل الفسخ كما لا يقبل ابتداء العقد ، وإن أقاله العبد الآبق لا تصح ولا تقبل الإقالة كما لا يقبل ابتداء العقد : لأنه يقول فيمن ابتاع عبدا وقتل في يد البائع : أن المشتري بالخيار بين أن يفسخ ويسترجع الثمن ، أو يقيم على البيع ويأخذ من القاتل قيمة العبد ، فقد جعل العقد بعد التلف قابلا للفسخ ، كذلك فيما جعلنا أصلا معه من بيع العبد بالجارية إذا تلفت ووجد بالعبد عيبا أن له رده بالعيب واسترجاع قيمة الجارية ، فجعل العقد بعد التلف قابلا للفسخ كما كان قبل التلف . وهاتان المسألتان ينقضان العلة .

                                                                                                                                            وأما الجواب على قياسهم على خيار الثلاث فحكم الأصل غير مسلم فلم تسلم . فأما الجواب عن قولهم أن المقبوض عن البيع الصحيح مضمون بالثمن دون القيمة ، فهو أن هذا الاستدلال باطل بمبتاع العبد بالجارية إذا تلفت ووجد بالعبد عيبا : لأن الجارية قد كانت مضمونة بالعبد الذي هو الثمن ، ثم صارت بعد الفسخ بالعيب مضمونة بالقيمة دون الثمن . فأما من جعل القول في اختلاف المتابيعين قول البائع لأن المبيع على ملكه فيقابل بمثله . فيقال : يجب أن يكون القول قول المشتري لأن الثمن على ملكه فتساوى القولان وبطل التعليل .

                                                                                                                                            وأما من جعل القول قول المشتري لأن الأصل براءة ذمته فيقابل أيضا بمثله ، والأصل أنه غير مالك لسلعة البائع فتساوى القولان وسقط التعليل .

                                                                                                                                            وأما من جعل القول قول من السلعة في يده فيقابل أيضا بمثله ، فيقال : هاهنا سلعة في يد أحدهما ، وثمن في يد الآخر ، فيجب أن يكون القول قول من الثمن في يده فيتساوى القولان ، ويسقط التعليل ، ولما كان التعليل لهذه المذاهب كلها متقابلا في الجهتين لم يرجع قول أحد المتبايعين ، وصح مذهبنا في تحالفهما لتساوي حكمهما والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية