الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولا يجوز أن يستثني من التمر مدا : لأنه لا يدري كم المد من الحائط ، أسهم من ألف سهم أو من مائة أو أقل أو أكثر فهذا مجهول ، ولو استثني ربعه أو نخلات بعينها فجائز " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا صحيح . وجملة الاستثناء أنه لا يخلو حاله وحال ما بقي من البيع بعده من أربعة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون الاستثناء معلوما ، والمبيع بعده معلوما ، وهذا على ضربين : مشاع ومجوز .

                                                                                                                                            [ ص: 202 ] فالمجوز : أن يقول بعتك ثمرة هذا الحائط إلا ثمرة هذه النخلات العشر بعينها ، فهذا بيع جائز باتفاق العلماء .

                                                                                                                                            والمشاع : أن يقول بعتك ثمرة هذا الحائط إلا ربعها ، فهذا بيع صحيح ، ويكون المبيع ثلاثة أرباعها مشاعا .

                                                                                                                                            وقال الأوزاعي : هذا بيع باطل : لأنه بيع على شرط الشركة . وهذا خطأ من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه لو قال بعتك ثلاثة أرباعها صح ، وكذا فلو قال بعتكها إلا ربعها : لأن المعقود عليه في الحالتين ثلاثة أرباعها .

                                                                                                                                            والثاني : أنه لو كان الاستثناء عشر المساكين جاز ، وإن كان مستحقا مجهول العين ، فأولى أن يجوز الاستثناء لنفسه لأن مستحقه معين .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن يكون الاستثناء مجهولا ، والمبيع بعده مجهولا ، وهو ضربان : مشاع ومجوز .

                                                                                                                                            فالمشاع : أن يقول بعتك هذه الثمرة إلا قوت نفسي ، أو إلا ما يأكله عبيدي ، فهذا باطل باتفاق : لأن قدر قوته مجهول ، وما يأكله عبيده مجهول ، فصار المبيع الثاني مجهولا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد روي عن ابن عمر أنه باع حائطا ، واستثنى منه قوت غلمانه .

                                                                                                                                            قيل : يحتمل أن يكون استثنى منه قدرا معلوما جعله قوت غلمانه .

                                                                                                                                            وكذا لو قال : بعتك هذه الثمرة إلا عشر قواصر منها ، أو في كل يوم سلة من رطبها ، كان المبيع باطلا : للجهل بالمبيع الثاني .

                                                                                                                                            وأما المجوز فهو أن تقول بعتك هذه الثمرة إلا عشر نخلات منها لا بعينها ، وهذا بيع باطل .

                                                                                                                                            وقال مالك : إن كان قدر ثلث الثمرة فما دون جاز البيع ، وكان له عشر نخلات وسطاء . وهذا غلط : لأن الاستثناء يوقع جهالة في المبيع من وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن ثمر النخل يختلف في القلة والكثرة .

                                                                                                                                            والثاني : أن المستثنى غير مجوز ولا مشاع في الجملة ، وقد يجوز أن يهلك النخل إلا عدد ما استثنى ، فيختلفان في الباقي هل هو المبيع أو المستثنى ، وهذا من أكبر الجهالات غررا فكان ببطلان البيع أولى .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن يكون الاستثناء معلوما ، والمبيع بعده مجهولا ، وهو أن يقول : بعتك هذه الثمرة إلا صاعا منها ، فهذا باطل .

                                                                                                                                            [ ص: 203 ] وقال مالك : هو بيع جائز : لأنه لما جاز استثناء ربعها ، والربع مجهول الكيل كان استثناء ما هو معلوم الكيل أولى بالجواز .

                                                                                                                                            ودليلنا على فساده ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم " أنه نهى عن الثنيا في البيع " وهو ما ذكرنا .

                                                                                                                                            ولأن هذا الاستثناء يوقع جهالة في البيع : لأنه لا يعلم قدر ما خرج بالاستثناء ، هل هو عشر أو ربع ، ولا ما بقي بعد الاستثناء ، هل هو تسعة أعشار أو أقل ، والمبيع إذا كان مجهولا بطل البيع . ولأنه يجوز أن تهلك الثمرة إلا قدر ما استثنيا ، فيختلفان هل هو المبيع أو المستثنى ، وإذا لم يتعين المبيع من المستثني كان باطلا ، وهذا مأمون في استثناء جزء شائع منها : لأن التالف منها والباقي فيها .

                                                                                                                                            والقسم الرابع : أن يكون الاستثناء مجهولا والمبيع بعده معلوما ، وهو أن يقول بعتك من هذه الثمرة مائة صاع والباقي لي ، فإن علما أن ما فيها مائة صاع فصاعدا صح البيع إن أمكن كيل الثمرة ، وبطل إن لم يمكن كيلها ، ولا يصح الخرص فيها ، ولأن المبيع بالخرص لا يجوز ، لأنه تخمين وحدس ، وإنما يجوز في حق المساكين لأنه مواساة .

                                                                                                                                            وإن لم يعلما أن ما في الثمرة مائة صاع كان البيع باطلا للجهل بوجود المبيع ، فلو كيلت من بعد فكانت مائة صاع فصاعدا لم يصح البيع بعد فساده . والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية