الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " فإن مات أحدهما قبل أن يتفرقا فالخيار لوارثه "

                                                                                                                                            قال الماوردي : ذكر الشافعي في هذا الموضع من كتاب البيوع أن خيار المجلس لا يبطل بالموت ويكون موروثا .

                                                                                                                                            وقال في كتاب المكاتب : إن مات المكاتب وقد باع أو اشترى قبل أن يتفرقا ، فقد وجب البيع .

                                                                                                                                            زاد أبو حامد في جامعه : ولم يكن للسيد الخيار .

                                                                                                                                            فظاهر قوله : فقد وجب البيع : يوجب قطع الخيار بالموت وأن لا يكون موروثا لسيده ، وقد صرح به أبو حامد في الزيادة التي ذكرها .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا في اختلاف نصه في هذين الموضعين على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب أبي إسحاق المروزي : أن المسألة على قولين في الموضعين : أحدهما : أن الموت يقطع خيار المجلس في بيع الحر والمكاتب ، ولا ينتقل إلى وارث الحر ولا إلى سيد المكاتب : لأنه لما انقطع الخيار بمفارقة الأبدان ، فأولى أن ينقطع بالموت المفرق بين الأرواح والأبدان .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن الخيار لا ينقطع بالموت ، وينتقل إلى وارث الحر وسيد المكاتب - وهو أصح القولين - لأن الخيار قد ثبت في المجلس بالعقد وفي الثلاث بالشرط ، فلما لم ينقطع خيار الثلاث بالموت وكان موروثا ، وجب أن لا ينقطع خيار المجلس بالموت ويكون موروثا .

                                                                                                                                            ولأنه لما لم ينقطع خيار المجلس بالتفرق على وجه الإكراه ، كان أولى أن لا يبطل بالموت ، لأنه أكثر إكراها .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني من مذاهب أصحابنا : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : أن المسألة على قول واحد في الموضعين ، وأن الخيار لا ينقطع بالموت ، لما ذكرنا ، ويكون متنقلا إلى وارث الحر وسيد المكاتب .

                                                                                                                                            وقوله في المكاتب : فقد وجب البيع :

                                                                                                                                            قصد به الرد على من زعم أن المكاتب إذا مات في مدة الخيار بطل البيع : لأنه يموت عبدا .

                                                                                                                                            [ ص: 58 ] والمذهب الثالث : أن الجواب مختلف على اختلاف نصيه في الموضعين ، فيكون الخيار منتقلا عن الحر إلى وارثه ، ولا ينقطع بموته ، ولا ينتقل عن المكاتب إلى سيده ، وينقطع بموته .

                                                                                                                                            والفرق بينهما : أن الحر ينتقل ماله إلى وارثه بالإرث وحدوث الفوت ، فقام في الخيار مقام مورثه ، كما قام مقامه في غيره . وليس كذلك المكاتب : لأنه ينتقل ماله إلى سيده بالملك المتقدم ، لا بالإرث ، فلما بطل خيار المكاتب بالموت لم ينتقل إلى سيده بحق الملك ، كالوكيل إذا مات في مدة الخيار لم ينتقل الخيار إلى موكله ، لأنه ينتقل إليه بحق الملك لا بالإرث .

                                                                                                                                            فصل : فأما إذا جن أحد المتبايعين في خيار المجلس ، فالخيار ثابت لا ينقطع بما حدث من الجنون : لأن الحقوق لا تبطل بحدوثه ، وسواء فارق المجنون المجلس أو قام فيه : لأن فعل المجنون لا حكم له ، فلم ينقطع الخيار بفراقه . وينتقل الخيار عنه إلى وليه ، كما ينتقل خيار الميت إلى وارثه . ويكون الخيار باقيا لولي المجنون ووارث الميت ما لم يعلما بالحال ولم يفارق العاقد الآخر المكان .

                                                                                                                                            فإذا علم ولي المجنون ووارث الميت ، فلهما الخيار في مجلسهما الذي علما فيه ما لم يفارقاه . فإن فارقا المجلس الذي علما فيه ، أو فارق العاقد الآخر المكان الذي عقد البيع فيه ، فقد انقطع الخيار ولزم البيع .

                                                                                                                                            فصل : فأما خيار الثلاث ، فلا يختلف مذهب الشافعي أنه موروث لا يبطل بالموت .

                                                                                                                                            وقال أبو حنيفة : خيار الثلاث يبطل بالموت ولا يورث .

                                                                                                                                            استدلالا بأنه خيار يمنع من انتقال الملك ، فوجب أن يبطل بالموت كخيار القبول . قال : ولأن الخيار في المبيع ينفي موجب العقد من جواز التصرف فيه ، كما أن الأجل في الثمن ينفي موجب العقد فمنع من جواز تصرف البائع فيه ، ثم ثبت أن الأجل يبطل بالموت ، فاقتضى أن يكون الخيار باطلا بالموت .

                                                                                                                                            وتحريره قياسا :

                                                                                                                                            أنه معنى ينفي موجب العقد ، فوجب أن يبطل بالموت كالأجل .

                                                                                                                                            قال : ولأن الخيار من حقوق العقد ، لا من حقوق الملك ، والورثة إنما يخلفون الميت في الملك لا في العقد ، فوجب أن لا يكون لهم في الخيار حق . ألا ترى أن الموكل لا يثبت له ما ثبت لوكيله من خيار الشرط : لأنه من حقوق العقد ، ويثبت له خيار العيب : لأنه من حقوق الملك .

                                                                                                                                            [ ص: 59 ] ولأن هذا الخيار مستحق بالشرط ، فوجب أن يكون مقصورا على من شرط له ، والوارث لم يشترط له الخيار ، فوجب أن لا يستحقه .

                                                                                                                                            ودليلنا : هو أنه خيار ثابت في بيع ، فجاز أن يقوم الوارث فيه مقام مورثه كخيار العيب : ولأنه معنى يسقط التكليف ، فوجب أن لا يقطع الخيار المستحق كالجنون : ولأن كل خيار لا ينقطع بالجنون لا ينقطع بالموت كخيار العيب : ولأن الخيار من حقوق الملك لا من حقوق العقد ، بدليل ثبوته بعد تقضي العقد ، فوجب إذا انتقل الملك إلى الوارث أن ينتقل إليه بحقوقه كالرهن المشروط في حقه . وفي هذا الاستدلال انفصال .

                                                                                                                                            فأما الجواب عما ذكروه من قياسهم على خيار القبول :

                                                                                                                                            فهو أن المعنى في خيار القبول أنه لما بطل بالجنون ، بطل بالموت ، على أن من أصحابنا من يقول : لم يبطل بالموت ، وإنما بطل بالتراخي ومن شروط صحته أن يكون على الفور ، وهذا قول أبي القاسم الداركي .

                                                                                                                                            حتى قال : لو كان الموت عقيب البذل ، فقال الوارث في الحال : قد قبلت ، صح العقد ، إذا لم يقع التراخي بين بذل البائع وقبول الوارث .

                                                                                                                                            وهذا قول يخالف الإجماع . والجواب الأول : هو الصحيح .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قياسهم على الأجل :

                                                                                                                                            فالمعنى فيه : أن الموت لما أتلف الذمة التي أثبت فيها الدين المؤجل ، أبطل الأجل ، لتلف محله ، ولم يجز أن ينتقل الدين بأجله إلى ذمة الوارث ، لأن صاحب الدين لم يرض بذمته . وليس كذلك الخيار : لأنه مستحق في المبيع الموجود بعد الموت ، كوجوده قبل الموت ، فجاز أن لا يبطل بالموت ، ألا ترى أن موت من له الدين لما لم يكن متلفا للذمة التي يثبت فيها الأجل لم يكن موته مبطلا للأجل .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قولهم : لأنه مستحق بالشرط ، فوجب أن يكون مقصورا على من له الشرط : فهو أنه باطل بالصفة المشروطة في المبيع ، وهو أن يبتاع عبدا على أنه صانع فيوجد غير صانع ، فللوارث الخيار في فسخ البيع : لعدم الصفة المستحقة بالشرط وإن كان الشرط لغيره ، على أن الخيار حق عليه فلم يصح إعراضه في اختلاف مستحقيه كالدين .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت أن خيار الثلاث موروث :

                                                                                                                                            فإن كان الوارث واحدا ، كان بالخيار في مدة الخيار بين إمضاء البيع في المبيع كله أو فسخ جميعه .

                                                                                                                                            وإن كانوا جماعة : فإن اتفقوا على إمساك المبيع كله أو رد جميعه ، فذاك لهم .

                                                                                                                                            وإن أراد بعضهم الرد وبعضهم الإمساك ؟

                                                                                                                                            [ ص: 60 ] فمذهب الشافعي : أنه ليس لهم ذلك ، وقيل لمن أراد الرد : لا حق لك في الرد إلا أن يرد الباقون معك ، لأن الصفقة واحدة ، فلم يجز تبعيضها على البائع .

                                                                                                                                            وفيه وجه آخر أنه يجوز لكل واحد من الورثة أن ينفرد برد حصته دون شركائه : لأنه يرد جميع ما استحقه بالعقد ، فصار في حكم المشترين صفقة .

                                                                                                                                            هذا كله إذا كان الميت هو المشتري .

                                                                                                                                            أما إن كان الميت هو البائع ، فلكل واحد من ورثته أن ينفرد ، فيفسخ للبيع في حصته ، لا يختلف فيه المذهب .

                                                                                                                                            بخلاف ورثة المشتري ، وإنما كان كذلك : لأنه إذا فسخ بعض ورثة البائع في حصته ، ثبت للمشتري خيار الفسخ في الباقي ، لتبعيض الصفقة ، فأمكنه دفع الضرر عن نفسه . وليس كذلك إذا مات المشتري فأمسك بعض ورثته ورد بعضهم ، لأن البائع لا يثبت له بذلك خيار يمكنه أن يدفع به الضرر عن نفسه .

                                                                                                                                            فصل : إذا مات أحد المتعاقدين في مدة خيار الثلاث ، فلم يعلم الوارث حتى مضت الثلاث ، سقط الخيار ولزم البيع ، لأن تحديد الخيار بالثلاث يمنع من ثبوته بعد الثلاث .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية