الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " ولو كان باعها فسد البيع حتى ترد إلى الأول فإن ماتت فعليه قيمتها كان أكثر من الثمن الفاسد أو أقل " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : إذا قبض الجارية عن بيع فاسد ، لم يجز أن يبيعها : لأنه لم يملكها ، فإن باعها فالبيع باطل ، وتنزع من يد المشتري الثاني وترد إلى بائعها الأول ، ويرجع المشتري الأول على البائع بالثمن الذي دفعه إليه ، ويرجع المشتري الثاني على المشتري الأول بالثمن الذي دفعه إليه فلو باعه الثاني على ثالث ، والثالث على رابع ، فعقود جميعهم باطلة ، وترد على الأول ويتراجعون بالأثمان . فإذا ثبت هذا وكان المشتري الأول قد باعها على ثان فلا يخلو حالها من ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            [ ص: 319 ] أحدها : أن تكون بحالها أو أزيد .

                                                                                                                                            والثاني : أن تكون قد تلفت .

                                                                                                                                            والثالث : أن تكون قد نقصت . فإن كانت بحالها أو أزيد قيمة وجب ردها على الأول ، ويتراجعان الثمن على ما مضى ، وإن تلفت فهي على ظاهر مذهب الشافعي مضمونة ضمان غصب أكثر ما كانت قيمته من حين القبض إلى حين التلف : لأن ما حدث من نقص فهو مضمون كضمان الأصل ، وما حدث من زيادة فهو تابع للأصل .

                                                                                                                                            وقال بعض أصحابنا : هو مضمون بالقيمة وقت التلف ولا اعتبار بما قبله بخلاف الغصب : لأن في الغصب عدوانا يتغلظ به الضمان ، والأول لما ذكرناه أصح . وإذا كان كذلك فسواء كانت القيمة أقل من الثمن المذكور في العقد أو أكثر .

                                                                                                                                            وحكي عن أبي حنيفة أن عليه أقل الأمرين من القيمة والثمن : لأن القيمة إذا زادت على الثمن فرضي البائع بالثمن سقط حقه من الزيادة عليه . وهذا خطأ : لأن العقد إذا فسد بطل اعتبار ما تضمنه من الثمن ؛ لأنه منوط بعقد سقط حكمه ، ولو جاز أن يعتبر الثمن إذا نقص عن القيمة نظرا للمشتري لجاز أن يعتبر الثمن إذا زاد على القيمة نظرا للبائع . فإذا ثبت هذا فلا يخلو حال قيمتها من ثلاثة أقسام :

                                                                                                                                            أحدها : أن تستوي قيمتها في يد المشتري الأول والمشتري الثاني ، فيقبضها الأول وقيمتها ألف درهم ، ويقبضها الثاني من الأول وقيمتها ألف درهم ، ثم تموت في يده ، فيكون كل واحد منهما ضامنا لجميع الألف بحق يده ، والمالك بالخيار في أن يرجع على الأول أو على الثاني ، فإن رجع بها على الأول رجع الأول بها على الثاني ، وإن رجع بها على الثاني ، لم يرجع الثاني بها على الأول .

                                                                                                                                            والقسم الثاني : أن تكون قيمتها في يد الأول أكثر من قيمتها في يد الثاني ، كأن قبضها الأول وقيمتها ألفان فنقصت في يده حتى صارت قيمتها ألفا ، ثم قبضها الثاني وماتت في يده فيكون الأول ضامنا لألفين ، والثاني ضامنا لألف واحد ، والمالك بالخيار بين أن يرجع على الأول ، أو على الثاني ، فإن رجع على الأول رجع عليه بألفي درهم ، ويرجع الأول على الثاني بألف منها ، وإن رجع على الثاني رجع عليه بألف واحد وهو قدر قيمتها حين قبضها : لأن ما نقص قبل قبضه لا يضمنه ، ثم يرجع على الأول بالألف الثاني ، وهو قدر القبض في يده ، وليس للأول أن يرجع بهذا الألف على الثاني : لأنه لم يضمنها ، ولا للثاني أن يرجع بالألف التي غرمها على الأول : لأن الثاني قد استهلكها .

                                                                                                                                            والقسم الثالث : أن تكون قيمتها في يد الأول أقل ، وفي يد الثاني أكثر ، كأن قبضها الأول وقيمتها ألف ، وسلمها إلى الثاني فزادت قيمتها في يده حتى صارت ألفين ، ثم ماتت فيكون كل واحد من الأول والثاني ضامنا لألفين : أما الثاني فلوجود هذه القيمة مضمونة في يده ، وأما الأول فلأنه أصل للثاني وضامن لما خرج عن يده إلى غير مالكه ، ويكون المالك بالخيار بين مطالبة [ ص: 320 ] الأول أو الثاني ، فإن طالب الأول رجع عليه بألفين ، ورجع بها الأول على الثاني ، وإن طالب الثاني رجع عليه بألفين ، ولم يرجع بها الثاني على الأول ، فهذا الحكم فيها إن تلفت .

                                                                                                                                            فأما إن لم تتلف ولكن نقصت قيمتها ، كأن كانت قيمتها ألفين فنقصت حتى صارت ألفا ، ثم ردت فلا يخلو حال هذا النقص من أن يكون حادثا في يد الأول أو الثاني ، فإن حدث النقص في يد الأول فالألف مضمونة على الأول ، وللمالك أن يرجع بها على الأول دون الثاني ، وليس للأول أن يرجع بها على الثاني ، وإن حدث النقص في يد الثاني فكل واحد منهما ضامن لهذا الألف ، والمالك بالخيار في الرجوع بها على أيهما شاء ، فإن رجع بها على الأول رجع الأول بها على الثاني ، وإن رجع بها على الثاني لم يرجع الثاني بها على الأول لما قدمنا من التعليل . ثم الأجرة مستحقة للمدة الماضية فما مضى من المدة في يد الأول لم يجز للمالك أن يرجع به على الثاني ، وما مضى من المدة في يد الثاني كان للمالك أن يرجع به على من شاء من الأول والثاني ، فإن رجع به على الأول رجع الأول به على الثاني ، وإن رجع به على الثاني لم يرجع الثاني به على الأول .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية