الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : ( قال المزني ) ولو لم يختلفا ، وقال كل واحد منهما لا أدفع حتى أقبض فالذي أحب الشافعي من أقاويل وصفها أن يؤمر البائع بدفع السلعة ويجبر المشتري على دفع [ ص: 307 ] الثمن من ساعته ، فإن غاب وله مال أشهد على وقف ماله وأشهد على وقف السلعة ، فإذا دفع أطلق عنه الوقف وإن لم يكن له مال فهذا مفلس والبائع أحق بسلعته ، ولا يدع الناس يتمانعون الحقوق وهو يقدر على أخذها منهم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال . اعلم أن لهذه المسألة مقدمة لا بد من ذكرها لترتب جواب المسألة عليها وهي : أن لكل واحد من المتبايعين حبس ما بيده عند تعذر قبض ما في مقابلته ، فللمشتري حبس الثمن خوفا من تعذر قبض المثمن : لأنه عقد معاوضة يقتضي حفظ العوض ، فلو تأخر تسليم المبيع المثمن لعذر أو غير عذر لم يلزم المشتري تعجيل الثمن ، وهكذا أيضا للبائع حبس المبيع في يده خوفا من تعذر قبض ثمنه ، فلو أعطاه المشتري بالثمن رهنا أو ضمينا لم يلزمه تسليم المبيع : لأن الثمن باق ، وإنما هذا وثيقة فيه ، وقد كان موثقا في ذمة مشتريه . لكن لو أحال بالثمن حوالة قبلها أو أعطاه به عوضا رضيه لزمه تسليم المبيع لاستيفاء ثمنه ، وهكذا لو أبرأه من الثمن لم يكن له حبس المبيع : لأنه لم يبق له حق بحبس المبيع لأجله ، فلو أعطاه بعض ثمنه وسأله أن يدفع إليه بقدره من المبيع ، ففيه قولان حكاهما ابن سريج :

                                                                                                                                            أحدهما : عليه أن يدفع إلى المشتري من المبيع بقدر ما قبض من ثمنه ، ويحبس منه بقدر ما بقي ، ولا يجوز أن يحبس جميعه لتقسط الثمن عليه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : لا يلزمه ذلك وله حبس الجميع على باقي الثمن ، ولو بقي منه درهم كالرهن . ولو اشترى منه ماشية فنتجت في يد بائعها قبل القبض أو نخلا فأثمرت كان للبائع أن يحبس أصل الماشية والنخل على الثمن دون النتاج والثمرة : لأنهما لم يتناولهما العقد ، وإنما حدثا على ملك المشتري من بعد .

                                                                                                                                            ولو كان المبيع دارا فأجرها المشتري قبل دفع الثمن كان للبائع أن يمنع المستأجر منها كما كان له منع المشتري : لأن تمكين المستأجر منها تسليم إلى المشتري : وذلك لا يلزم قبل قبض الثمن .

                                                                                                                                            فصل : فإذا تقررت هذه الجملة فصورة مسألة الكتاب أن يبذل كل واحد من المتبايعين ما بيده لكن يختلفان في التقديم ، فيقول البائع : لا أسلم المبيع إلا بعد قبض ثمنه ، ويقول المشتري : لا أدفع الثمن إلا بعد قبض المبيع ، فقد حكى الشافعي أربعة مذاهب للناس في ذلك ، واختار أحدها فخرجها أصحابنا أربعة أقاويل له :

                                                                                                                                            أحدها : أن الحاكم يجبرهما على إحضار ذلك إليه ، فإذا دفع البائع المبيع إليه ، وأحضر المشتري الثمن إليه ، دفع الثمن إلى البائع والمبيع إلى المشتري ، ولا يبالي بأيهما بدأ إذا كان حاضرا . وحكي هذا القول عن بعض المشرقيين ، ووجه هذا القول أن الحاكم منصوب لاستيفاء الحقوق وقطع التخاصم فإذا أمكنه ذلك لم يدع الناس يتمانعون الحقوق وهو يقدر [ ص: 308 ] على أخذها منهم . فعلى هذا إذا أحضر ذلك إلى الحاكم فتلف في مجلسه كان من ضمان صاحبه ، فإن كان التالف هو المبيع فيبطل البيع لتلفه قبل القبض ، وإن كان الثمن هو التالف لم يبطل البيع وعلى المشتري أن يأتي ببدله إلا أن يكون الثمن معينا فيبطل البيع أيضا بتلفه .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أن الحاكم يدعهما جميعا ولا يجبر واحدا منهما : لأن لكل واحد منهما حقا في حبس ما بيده ، وليس أحدهما أحق من صاحبه ، لكن يمنعهما من التخاصم فأيهما تطوع يدفع ما بيده ، وجب على الحاكم حينئذ أن يجبر الآخر على تسليم ما في مقابلته ، وهذا القول حكاه عن بعض المشرقيين أيضا .

                                                                                                                                            والقول الثالث : أن الحاكم ينصب لهما أمينا عدلا ، ويأمر كل واحد منهما بتسليم ما بيده إليه حتى إذا صار الجميع معه سلم المبيع إلى المشتري ، والثمن إلى البائع ، وحكي هذا القول عن سعيد بن سالم القداح ، وقال أبو إسحاق المروزي : يجعل ، وهذا القول الأول واحدا ، وتخرج المسألة على ثلاثة أقاويل ، وامتنع سائر أصحابنا من جعلهما قولا واحدا ، وأن كل واحد منهما مخالف لصاحبه : لأن الدفع والتسليم في القول الأول إلى الحاكم وكان بحكمه وهاهنا الحكم منه في نصب الأمين والأمر بالتسليم فاختلفا .

                                                                                                                                            والقول الرابع : وهو الذي اختاره لنفسه أن الحاكم يجبر البائع على تسليم المبيع إلى المشتري أولا ، فإذا سلمه إليه أجبر المشتري على تسليم الثمن إليه ، ووجه هذا القول أن استقرار العقد معتبر بوجود القبض فوجب إجبار البائع عليه ليستقر العقد به ، ولأن البائع يقدر على التصرف في الثمن قبل قبضه بالحوالة ويأخذ بدله ، والمشتري لا يقدر على ذلك في المبيع إلا بقبضه ، فأجبر البائع عليه ليتساويا فيه ، ولأن المبيع معين والثمن في الذمة غير معين وما تعلق بالأعيان أحق بالتقديم مما ثبت في الذمم كالرهن في أموال المفلس ، فعلى هذا إذا سلم البائع المبيع إلى المشتري لم يخل حال المشتري من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون موسرا بالثمن ، أو معسرا ، فإن كان معسرا بالثمن فهذا مفلس والبائع بالخيار بين أن يرجع بعين ماله وبين أن يصبر به في ذمة المشتري مع إعساره ، وإن كان موسرا بالثمن فلا يخلو حال ماله من أحد أمرين :

                                                                                                                                            إما أن يكون حاضرا أو غائبا ، فإن كان ماله حاضرا أجبر على دفع الثمن إلى البائع ، ويكون ممنوعا من التصرف في المبيع وسائر ماله حتى يدفع الثمن إلى البائع ، ثم يطلق تصرفه فيه حينئذ ، وإنما استحق الحجر في المبيع وجميع ماله : لأنه ربما استهلكه بتصرفه ، ولا يصل البائع إلى المبيع ولا إلى ثمنه . وإن كان ماله غائبا فله ثلاثة أحوال :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون على مسافة أقل من يوم وليلة ، فهذا في حكم الحاضر وينتظر به حضور ماله بعد الحجر عليه في المبيع وسائر ماله ، وإذا أحضر الثمن فك حجره وأطلق تصرفه .

                                                                                                                                            [ ص: 309 ] الثاني : أن يكون على مسافة ثلاثة أيام فصاعدا فلا يلزم انتظار ماله لبعده عنه وأنه في حكم المعسر .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون على مسافة أكثر من يوم وليلة وأقل من ثلاثة أيام فعلى وجهين :

                                                                                                                                            أحدهما : ينتظر به حضور ماله كما لو كان على مسافة أقل من يوم وليلة ويحجر عليه في المبيع في ماله حتى يحضر الثمن .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : لا ينتظر به لبعد المسافة وأنهما في حكم ما زاد على الثلاث . فعلى هذا ما الذي يستحقه البائع إذا لم ينتظر ؟ فيه وجهان :

                                                                                                                                            أحدهما : يجعل كالمفلس ويخير البائع بين أن يرجع بعين ماله . وبين أن يصبر بالثمن في ذمة المشتري إلى حين وجوده ، فإن صبر به أطلق تصرف المشتري في المبيع وغيره .

                                                                                                                                            والوجه الثاني : أن حكم المفلس منفي عنه لوجود المال وإن بعد منه ، ولكن تباع السلعة المبيعة ليصل البائع إلى حقه منها ، فإن بيعت بقدر ما للبائع من الثمن دفع إليه ذلك وقد استوفى حقه . وإن بيعت بأكثر رد الفاضل على المشتري ، وإن بيعت بأقل كان الباقي دينا للبائع في ذمة المشتري .

                                                                                                                                            فصل : إذا كان المبيع عرضا بعرض ، وقال كل واحد منهما لا أدفع حتى أقبضه ففيه أربعة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : أن الحاكم يأمرهما بإحضار ذلك إلى مجلسه .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يدعهما حتى يتطوع أحدهما فيجبر الآخر على تسليم ما في مقابلته .

                                                                                                                                            والثالث : ينصب الحاكم أمينا يدفعان ذلك إليه حتى يسلم إلى كل واحد منهما حقه .

                                                                                                                                            فأما القول الرابع : وهو أنه يجبر البائع أولا ثم المشتري فلا يجيء في هذا الموضع : لأنه ليس يتعين أحدهما بأنه بائع والآخر بأنه مشتر . ولو كان المبيع عرضا بعرض وهما أو أحدهما مما لا ينقل فليس إلا قولين :

                                                                                                                                            أحدهما : أن الحاكم يدعهما حتى يتطوع أحدهما ثم يجبر الآخر .

                                                                                                                                            والثاني : أنه ينصب لهما أمينا . ولا يجيء القولان الآخران : لأن إحضار ذلك إلى مجلس الحكم غير ممكن فبطل هذا القول . وليس يتعين أحدهما بأنه بائع فيجبر فيبطل أيضا هذا القول ، والله أعلم .

                                                                                                                                            فصل : فإذا امتنعت الزوجة من تسليم نفسها إلا بعد قبض صداقها ، وامتنع الزوج من دفع الصداق إلا بعد تسليم نفسها فلا يحكم فيه بجبر الزوجة على تسليم نفسها كما يجبر البائع على تسليم سلعته : لأن البائع إذا سلم سلعته أمكن أن يحجر على المشتري فيها [ ص: 310 ] والزوجة إذا سلمت نفسها لا يمكن منع الزوج من الاستمتاع بها ، فيضر تسليم نفسها ، وليس كذلك البائع ، وتجيء باقي الأقاويل ، والله أعلم .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية