الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            معلومات الكتاب

                                                                                                                                            الحاوي الكبير في فقه مذهب الإمام الشافعي

                                                                                                                                            الماوردي - أبو الحسن علي بن محمد بن حبيب الماوردي

                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            مسألة : قال الشافعي رحمه الله تعالى : " وأحب أن يتجر الوصي بأموال من يلي ولا ضمان عليه : قد اتجر عمر بمال يتيم ، وأبضعت عائشة بأموال بني محمد بن أبي بكر في البحر ، وهم أيتام تليهم " .

                                                                                                                                            قال الماوردي : وهذا كما قال .

                                                                                                                                            يجوز لولي اليتيم أن يتجر له بماله على الشروط المعتبرة فيه ، وهو قول عامة الفقهاء .

                                                                                                                                            وقال ابن أبي ليلى : لا يجوز لوليه أن يتجر بماله استدلالا بقوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ الأنعام : 152 ] فكان النهي عموما والاستثناء بالأحسن في حفظه خصوصا .

                                                                                                                                            ولأن التجارة بالمال خطر وطلب الربح به متوهم ، فلم يجز أن يتعجل خطرا متيقنا لأجل ربح متوهم .

                                                                                                                                            ولأن الولي مندوب لحفظ ماله كالمودع المندوب لحفظ ما أودع ، فلما لم يجز للمودع أن يتجر بالوديعة طلبا لربح يعود على مالكها فلم يجز للولي أن يتجر بمال اليتيم طلبا لربح يعود عليه .

                                                                                                                                            وهذا خطأ لقوله تعالى : فإن كان الذي عليه الحق سفيها أو ضعيفا أو لا يستطيع أن يمل هو فليملل وليه بالعدل [ البقرة : 282 ] .

                                                                                                                                            والولي إنما يلزمه أن يملي ما حدث من دين ، وذلك في الغالب إنما يكون عن بيع ، وهو لا يصح منه فيتولاه ، فدل على أن الولي هو الذي تولاه .

                                                                                                                                            وروى عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ابتغوا في أموال اليتامى : لا تأكلها الزكاة " . وروي : " اتجروا في أموال اليتامى لا تأكلها الزكاة " .

                                                                                                                                            وروي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه اتجر بمال يتيم كان يلي عليه . وروي عن عائشة رضي الله عنها أنها أبضعت بأموال بني أخيها محمد بن أبي بكر في البحر وهم أيتام تليهم .

                                                                                                                                            [ ص: 362 ] وليس لهذين في الصحابة مخالف ، فكان إجماعا .

                                                                                                                                            ولأن الولي يقوم في مال اليتيم مقام البالغ الرشيد في مال نفسه ، فلما كان من أفعال الرشيد أن يتجر بماله ، كان الولي في مال اليتيم مندوبا إلى أن يتجر بماله . ولأن الولي مندوب إلى أن يثمر ماله من يلي عليه ، والتجارة من أقوى الأسباب في تثمير المال فكان الولي بها أولى .

                                                                                                                                            فأما قوله تعالى : ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن [ الأنعام : 152 ] فقد اختلف المفسرون في تأويلها على ثلاثة أقاويل : فمذهب ابن أبي ليلى خارج منها ، ومذهبنا داخل فيها .

                                                                                                                                            أحدها : أن التي هي أحسن التجارة ، وهذا قول مجاهد .

                                                                                                                                            والثاني : أن يتجر له ولا يأخذ من الربح شيئا ، وهذا قول الضحاك .

                                                                                                                                            والثالث : أن التي هي أحسن أن يأكل بالمعروف إن افتقر ، ويمسك عن الأكل إن استغنى ، وهذا قول ابن زيد .

                                                                                                                                            وأما الجواب عن قوله : إن التجارة خطر والربح متوهم ، فهو أن يقال : إن سلامة المال في أحوال السلامة أغلب ، وظهور الربح مع استقامة الأمور أظهر ، وإذا كان الأمر في هذين غالبا جاز العمل عليه لعدم اليقين فيه .

                                                                                                                                            وأما قولهم : إنه كالمودع في اختصاصه بالحفظ ، فخطأ : لأن المودع نائب عن جائز الأمر فكان تصرفه موقوفا على إذنه ، والولي نائب عام التصرف ، ألا ترى أن له الإنفاق عليه وشراء العقار له .

                                                                                                                                            فصل : فإذا ثبت جواز التجارة بماله فإنما يتجر بما كان ناضا من غير أن يبيع عقارا ولا أرضا ، فأول ما ينبغي للولي أن يفعل بالناض من ماله بعد كسوته ونفقته أن يعمر ما يحتاج إلى العمارة من عقاره أو ضياعه إذا كان في عمارتها حفظ الأصل . وليس لما يبني به العقار من الآلة صفة محددة ، وكان بعض أصحابنا المتأخرين يحد ذلك فيقول : يجب أن يبني بالآجر والطين ، ولا يبنيه بالآجر والجص ولا باللبن والطين .

                                                                                                                                            قال : لأن للآجر والطين مرجوعا إن هدم وبقاء إن ترك ، والجص في الآجر لا مرجوع له ، وإذا انهدم بعضه خرب جميعه ، واللبن والطين قليل البقاء . وليس لهذا التحديد وجه صحيح : لأن لكل قوم عرفا ولكل بلد عادة ، فمن البلاد ما لا يستحكم البناء فيه إلا بالحجارة والنورة ، ومنها بالآجر والجص ، ومنها بالآجر والطين ، ومنها باللبن والطين ، ومنها بالخشب الوثيق .

                                                                                                                                            [ ص: 363 ] فإذا بناه الولي على أحكم ما جرت به عادة ذلك البلد ؛ أجزأه .

                                                                                                                                            ثم ينظر في الباقي من ماله ، فإن كان لو ابتاع له عقارا أو أرضا عاد عليه من فاضل غلته قدر كفايته فابتاع العقار والأرضين بالمال أولى من التجارة به ، لأنه أحفظ أصلا وأقل خطرا مع استواء العادة فيهما ، وإن كان لو ابتاع به عقارا لم يعد عليه من فاضل غلته قدر كفايته جاز أن يتجر له بالمال على شروط ثلاثة : وذلك أن يكون الزمان أمينا ، والسلطان عادلا ، والتجارة مربحة . فإن كان الزمان مخوفا لم يتجر بالمال لما فيه من التغرير به ، وإن كان السلطان جائرا لم يجز أن يتجر به : لأنه ربما طمع فيه بجوره ، وإن كانت التجارة غير مربحة لم يجز أن يتجر بالمال لعدم الفضل المقصود بالتجارة . فإذا اجتمعت هذه الأحوال من أمن الزمان وعدل السلطان وأرباح المتاجر ، جاز للولي أن يتجر له بماله على شروط معتبرة في الشراء وشروط معتبرة في البيع .

                                                                                                                                            فأما الشروط المعتبرة في الشراء فأربعة :

                                                                                                                                            أحدها : أن يشتري ما لا يخاف عليه الفساد وإن بقي : لأن ما يسرع فساده لا يتحفظ ثمنه وأن يقع عند خوف فساده وكس . وأموال اليتامى يجب أن تكون محفوظة الأصل موجودة النماء .

                                                                                                                                            والثاني : أن يكون الربح فيه غالبا ، إما بظهوره في الحال وإما لغلبة الظن به في ثاني حال ، فإن لم يغلب في الظن ظهور الربح فيه لم يكن لليتيم حظ في صرف ماله فيه .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون الشراء بالنقد لا بالنساء : لأن شراء النقد أرخص والربح فيه أظهر ، لأن في النساء إلزام دين لا يؤمن معه تلف المال وبقاء الدين .

                                                                                                                                            فهذه الشروط الثلاثة هي من حق الولاية وصحة العقد جميعا . فإن أخل الولي بها أو بأحدها لم يلزم الشراء في مال اليتيم ، وكان باطلا إن عقد بعين المال ويلزم الولي إن لم يعقد بعين المال .

                                                                                                                                            والرابع : أن لا يدفع الثمن إلا بعد قبض ما اشترى ما لم يقض عليه بدفع الثمن ناضا : لأن في دفع الثمن قبل قبض المبيع تغريرا ، وهذا شرط في حق الولاية لا في صحة العقد ، فإن أخل به الولي صح العقد وكان ضامنا لما عجل من الثمن حتى يقبض المبيع فيسقط عنه بقبضه ضمان الثمن .

                                                                                                                                            فصل : وأما الشروط المعتبرة في البيع فأربعة :

                                                                                                                                            أحدها : أن يكون البيع عند انتهاء الثمن وكمال الربح من غير أن يغلب في الظن حدوث زيادة فيه لما في بيعه قبل كمال الربح من تفويت باقيه . فإن باعه مع غلبة الظن في حدوث الزيادة في ثمنه لم يجز لعدم الحظ لليتيم في بيعه .

                                                                                                                                            والثاني : الاجتهاد في توفير الثمن حسب الإمكان . فإن باعه بثمن هو قادر على الزيادة [ ص: 364 ] فيه لم يجز ، سواء كان بيعه بثمن المثل أو أقل أو أكثر : لأن ترك الزيادة مع القدرة عليها عدول عن الحظ لليتيم .

                                                                                                                                            والثالث : أن يكون البيع بالنقد دون النساء : لأن بيع النقد أحفظ للمال مع اتصال التجارة به ، إلا أن يكون النساء أحظ له في بعض الأحوال فيجوز أن يبيع بالنسيئة بخمسة شروط :

                                                                                                                                            أحدها : زيادة الثمن على سعر النقد .

                                                                                                                                            والثاني : قرب الأجل .

                                                                                                                                            والثالث : ثقة المشتري ويساره .

                                                                                                                                            والرابع : الإشهاد عليه .

                                                                                                                                            والخامس : الرهن فيه على ما سنوضح من أحكام ذلك في كتاب الرهن .

                                                                                                                                            والرابع : أن لا يدفع ما باعه نقدا إلا بعد قبض ثمنه ما لم يقض عليه بدفعه ناضا .

                                                                                                                                            وهذا شرط في حق الولاية لا في صحة العقد ، فإن أقبض المبيع كان ضامنا لثمنه لا للمبيع في نفسه : لأن المبيع من ملك المشتري ، وقد سقط ضمانه عن اليتيم بالقبض ، وإنما حقه في الثمن ، فيصير الولي بدفع ذلك ضامنا لمال اليتيم الذي حصل التفريط بتأخير قبضه .

                                                                                                                                            ولا يجوز أن يسافر بماله برا ولا بحرا لما في السفر من التغرير بالمال . روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إن المسافر وماله على قلت إلا ما وقى الله " أي : على خطر .

                                                                                                                                            فإن سافر بماله ضمن ألا أن تكون المسافة قريبة والطريق آمنا .

                                                                                                                                            فإن قيل : فقد روي عن عائشة رضي الله عنها أنها أبضعت بأموال بني أخيها في البحر ، ففيه جوابان :

                                                                                                                                            أحدهما : أنه كان في ساحل بحر الجار بحيث يقرب من المدينة ، وكان غالب ذلك السلامة .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يجوز أن تكون عائشة ضمنت المال بالغرر إن تلف مبالغة في طلب الربح لبني أخيها .

                                                                                                                                            فإذا اتجر الولي بمال اليتيم على الشروط المذكورة في البيع والشراء ، فهل له أجرة مثله بحق عمله أم لا ؟ ينظر فيه : فإن لم يكن ذلك قاطعا له عن عمله ولا مانعا من التصرف في شغله وكان واجدا مكتفيا فلا أجرة له ، وإن كان يقطعه ذلك عن عمله ويمنعه من كسبه ففيه قولان :

                                                                                                                                            [ ص: 365 ] أحدهما : لا أجرة له : لأنه عمل ذلك مختارا عن غير عقد لازم ولا عن عوض مبذول فصار متطوعا به .

                                                                                                                                            والقول الثاني : له الأجرة : لأن في المنع منها ذريعة إلى إهمال الأيتام ، وترك مراعاتهم والتجارة بأموالهم .

                                                                                                                                            وقد قال المفسرون في تأويل قوله تعالى في أموال اليتامى : ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا ومن كان غنيا فليستعفف ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف [ النساء : 6 ] أن السرف هو أخذها على غير ما أباح الله تعالى .

                                                                                                                                            وقوله : وبدارا أن يكبروا قال ابن عباس : هو أن يأكل مال اليتيم ببادر أن يبلغ فيحول بينه وبين ماله ، وقوله : ومن كان غنيا فليستعفف يعني بمال نفسه عن مال اليتيم وقوله : ومن كان فقيرا فليأكل بالمعروف اختلف المفسرون فيه على أربعة أقاويل : أحدها : أن يستقرض من ماله إذا احتاج ثم يقضي إذا وجد ، وهذا قول عمر ، وابن عباس ، وأحد قولي الشافعي .

                                                                                                                                            والثاني : أنه يأخذ إذا كان محتاجا أجرة معلومة على قدر خدمته . وهذا قول عطاء ، والقول الثاني للشافعي .

                                                                                                                                            والثالث : أنه يأكل ما سد الجوعة ويلبس ما وارى العورة ولا قضاء ، وهذا قول إبراهيم ، ومكحول ، وقتادة .

                                                                                                                                            وروى سعد ، عن قتادة ، أن عم ثابت بن رفاعة ، وثابت يومئذ يتيم في حجره ، أتى نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله : إن ابن أخي يتيم في حجري ، فما يحل لي من ماله ؟ قال : أن تأكل بالمعروف من غير أن تقي مالك بماله ولا تتخذ من ماله وفرا . والرابع : أن يأكل من ثمره ويشرب من لبن ماشيته ما يقيانه من غير تعرض لما سوى ذلك من فضة أو ذهب . وهذا قول أبي العالية والشعبي .

                                                                                                                                            روى القاسم بن محمد قال : جاء أعرابي إلى ابن عباس ، وقال : إن في حجري أيتاما ، وإن لهم إبلا فما يحل لي من ألبانها ؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهنأ جرباها وتلوط حوضها وتفرط عليها يوم وردها ، فاشرب غير مضر بنسل ولا ناهك في الحلب .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية