الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                            صفحة جزء
                                                                                                                                            فصل : وأما الضرب الثالث : فهو أن يبرأ البتة من كل عيب بها من غير أن يسميها ولا يقف المشتري عليها ، فالذي نص عليه الشافعي في اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى ، أن الذي يذهب إليه في الحيوان قضاء عثمان بن عفان رضي الله عنه أن يبرأ من كل عيب لم [ ص: 272 ] يعلمه ، ولا يبرأ من عيب علمه حتى يسميه للبائع ، ويقفه عليه تقليدا ، وأن الحيوان يفارق ما سواه . وقال في اختلافه ومالك : ولو ذهب ذاهب إلى أن من باع بالبراءة برئ مما علم ومما لم يعلم لكان مذهبا يجافيه حجة .

                                                                                                                                            واختلف أصحابنا لاختلاف نصه على ثلاثة مذاهب :

                                                                                                                                            أحدها : وهو مذهب أبي إسحاق المروزي وأبي علي بن خيران : أن المسألة على قول واحد وهو أن يبرأ في الحيوان من كل عيب لم يعلمه دون ما علمه ، ولا يبرأ في غير الحيوان من عيب أصلا سواء علمه أو لم يعلمه .

                                                                                                                                            والمذهب الثاني : وهو قول أبي علي بن أبي هريرة : أنه يبرأ في الحيوان مما لم يعلمه دون ما علمه ، ولا يبرأ في غيره الحيوان مما علمه وهل يبرأ مما لم يعلمه على قولين .

                                                                                                                                            والمذهب الثالث : وهو قول أبي العباس بن سريج ، وأبي سعيد الإصطخري ، وأبي حفص بن الوكيل : أن المسألة على ثلاثة أقاويل :

                                                                                                                                            أحدها : أنه يبرأ من كل عيب علمه أو لم يعلمه في الحيوان ، أو في غير الحيوان ، وهذا قول أبي حنيفة .

                                                                                                                                            والقول الثاني : أنه لا يبرأ من عيب أصلا سواء علمه أو لم يعلمه في الحيوان وغيره .

                                                                                                                                            والقول الثالث : أنه يبرأ في الحيوان مما لم يعلمه دون ما علمه ، ولا يبرأ في غير الحيوان لا مما علمه ولا مما لم يعلمه .

                                                                                                                                            فإذا قيل بالأول إنه يبرأ من كل عيب ، وهو قول أبي حنيفة ، فوجهه قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " المؤمنون عند شروطهم " ولما روي أن رجلين اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث قد درست وتقادمت ، فقال لهما النبي صلى الله عليه وسلم : " إنكم تختصمون إلي ولعل أحدكم ألحن بحجته فمن قضيت له من حق أخيه شيئا فلا يأخذه إنما أقطع له قطعة من النار " فبكيا وقال كل واحد منهما قد تركت حقي لصاحبي فقال صلى الله عليه وسلم : " لا ولكن اقتسما واستهما وليحلل كل واحد منكما صاحبه " . فلما أمرهما بالتحلل من المواريث المتقادمة المجهولة دل على جواز الإبراء من المجهول ، ولأن الإبراء إسقاط حق فصح مجهولا ومعلوما كالعتق ، ولأن ما لا يفتقر إلى التسليم يصح مع الجهالة وما يفتقر إلى التسليم لا يصح مع الجهالة كالبيع ، فلما كان الإبراء لا يفتقر إلى التسليم صح في المجهول .

                                                                                                                                            وإذا قيل بالثاني : إنه لا يبرأ من عيب ، فوجهه " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغرر " والإبراء عن المجهول غرر : لأنه لا يقف له على قدر ، ولأن الإبراء كالهبة غير أن الإبراء يختص بما في الذمة والهبش بالأعيان القائمة فلما لم تصح هبة المجهول [ ص: 273 ] لم يصح الإبراء عن المجهول ، ولأن كل جهالة يمكن الاحتراز منها لم يعف عنها كالجهالة بتوابع المبيع كالأساس وأطراف الأجداع وطمي البئر ، فلما أمكن الاحتراز من الجهال في الإبراء وجب أن تكون الجهالة مانعة من صحة الإبراء ، ولأن الرد بالعيب مستحق بعد لزوم العقد فلم يجز أن يسقط بشرط قبل لزوم العقد : لأنه إسقاط حق قبل وجوبه ، ألا ترى أن الشفيع لو عفا قبل الشراء لم تسقط شفعته بعد الشراء : لأنه أسقطها قبل وجوبها كذلك البيع بشرط البراءة .

                                                                                                                                            وإذا قيل بالثالث : إنه يبرأ في الحيوان مما لم نعلمه دون ما علمه ، ولا يبرأ في غير الحيوان مما علمه ومما لم يعلمه . فوجهه قضاء عثمان رضي الله عنه ، وهو ما روي أن زيد بن ثابت ابتاع من عبد الله بن عمر عبدا بثمان مائة درهم على شرط البراءة ، فوجد بالعبد عيبا ، فأراد رده على ابن عمر ، فلم يقبله فتحاكما فيه إلى عثمان بن عفان رضي الله عنه ، فقال لابن عمر : أتحلف أنك لم تعلم بهذا العيب فاتقى اليمين واسترد العبد ، فباعه بألف وستمائة درهم فقال : تركت اليمين لله فعوضني . فقد قضى عثمان رضي الله عنه بالفرق في عيوب الحيوان بين ما علمه وما لم يعلمه ، وحكم بالبراءة مما لم يعلم ، وتابعه زيد بن ثابت ، وابن عمر رضي الله عنهما : لأن زيدا رضي بقضائه وابن عمر لم يقل بخلافه ، وإنما امتنع من قبوله : لأن العيب مما لم يعلم به . فإن قيل : فإذا كان هذا إجماعا ، فهلا استدل به الشافعي ، ولم يجعله تقليدا لعثمان ، قيل : لأن التصريح بالحكم إنما كان من عثمان دون زيد وابن عمر ، وإنما كان إمساكهما اتباعا لعثمان .

                                                                                                                                            فإن قيل : لما قلد عثمان في هذا الحكم ، والتقليد عنده ليس بحجة ، قيل : لأن قول عثمان في هذا الموضع حجة على مذهب الشافعي في القديم والجديد وإن لم يجز التقليد عنده .

                                                                                                                                            أما على قوله في القديم : فلأنه كان يرى قول الواحد من الصحابة - إذا انتشر ولم يظهر خلافه - حجة يقدم على القياس ، لا سيما إذا كان إماما ، وأما على قوله في الجديد : فلأنه يرى أن قياس التقريب إذا انضم إلى قول صحابي كان أولى من قياس التحقيق ، وقد انضم إلى قضاء عثمان قياس تقريب ، فصار حجة يقدم على قياس التحقيق ، وهو ما ذكره الشافعي : في أن الحيوان يفارق ما سواه : لأنه يغتذي بالصحة والسقم وتحول طبائعه ، وقلما يخلو من عيب وإن خفي ، فلم يكن الاحتراز من عيوبه الخفية بالإشارة إليها والوقوف عليها ، وليس كذلك في غير الحيوان : لأنه قد يخلو من العيوب ويمكن الاحتراز منها بالإشارة إليها لظهورها فدل على افتراق الحيوان وغيره من جهة المعنى مع ما ذكرنا من قضية عثمان .

                                                                                                                                            التالي السابق


                                                                                                                                            الخدمات العلمية