الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ومن أرسل أجيرا له مجوسيا أو خادما فاشترى لحما فقال اشتريته من يهودي أو نصراني أو مسلم وسعه أكله ) ; لأن قول الكافر مقبول في المعاملات ; لأنه خبر صحيح لصدوره عن عقل ودين يعتقد فيه حرمة الكذب والحاجة ماسة إلى قبوله لكثرة وقوع المعاملات ( وإن كان [ ص: 9 ] غير ذلك لم يسعه أن يأكل منه ) معناه : إذا كان ذبيحة غير الكتابي والمسلم ; لأنه لما قبل قوله في الحل أولى أن يقبل في الحرمة .

قال ( ويجوز أن يقبل في الهدية والإذن قول العبد والجارية والصبي ) ; لأن الهدايا تبعث عادة على أيدي هؤلاء ، وكذا لا يمكنهم استصحاب الشهود على الإذن عند الضرب في الأرض والمبايعة في السوق ، فلو لم يقبل قولهم يؤدي إلى الحرج . وفي الجامع الصغير : إذا قالت جارية لرجل بعثني مولاي إليك هدية وسعه أن يأخذها ; لأنه لا فرق بين ما إذا أخبرت بإهداء المولى غيرها أو نفسه لما قلنا ( قال ويقبل في المعاملات قول الفاسق ، ولا يقبل في الديانات إلا قول العدل ) ، ووجه الفرق أن المعاملات يكثر وجودها فيما بين أجناس الناس ، فلو شرطنا شرطا زائدا يؤدي إلى الحرج فيقبل قول الواحد فيها عدلا كان أو فاسقا [ ص: 10 ] كافرا أو مسلما عبدا أو حرا ذكرا أو أنثى دفعا للحرج . أما الديانات فلا يكثر وقوعها حسب وقوع المعاملات فجاز أن يشترط فيها زيادة شرط ، فلا يقبل فيها إلا قول المسلم العدل ; لأن الفاسق متهم والكافر لا يلتزم الحكم فليس له أن يلزم المسلم ، بخلاف المعاملات ; لأن الكافر لا يمكنه المقام في ديارنا إلا بالمعاملة . ولا يتهيأ له المعاملة إلا بعد قبول قوله فيها فكان فيه ضرورة ، ولا يقبل فيها قول المستور في ظاهر الرواية .

وعن أبي حنيفة أنه يقبل قوله فيها جريا على مذهبه أنه يجوز القضاء به ، وفي ظاهر الرواية هو والفاسق فيه سواء حتى يعتبر فيهما أكبر الرأي .

التالي السابق


( قوله معناه إذا كان ذبيحة غير الكتابي والمسلم ) أقول : كان الأظهر أن يقال : معناه إذا كان قوله غير ذلك بأن قال اشتريته من غير الكتابي والمسلم ; لأن المقصود بالبيان هنا كون قول الكافر مقبولا فيما هو من جنس المعاملات سواء تضمن الحل أو الحرمة ، لا كون ذبيحة المسلم والكتابي مما يؤكل دون ذبيحة غيرهما فإنه من مسائل كتاب الذبائح وقد مر مستوفى ، وعبارة المصنف توهم أصالة الثاني كما ترى . ثم إنه لو قال في المتن : وإن قال غير ذلك بدل قوله وإن كان غير ذلك لكان أظهر من الكل ، وكان أوفق لما قبله وهو قوله وقال اشتريته من يهودي أو نصراني أو مسلم ، إلا أنه لم يغير لفظ محمد رحمه الله في الجامع الصغير تبركا به ( قوله لأنه لما قبل قوله في الحل أولى أن يقبل في الحرمة ) قال صاحب العناية في شرح هذا المحل : قوله لأنه لما قبل قوله في الحل : يعني في قوله وسعه أكله ، فإنه يتضمن الحل لا محالة أولى أن يقبل في الحرمة ; لأن الحرمة مرجحة على الحل دائما انتهى .

أقول : في تفسيره قول المصنف في الحل بقوله يعني في قوله وسعه أكله ركاكة جدا ; لأن قوله وسعه أكله جواب المسألة فهو في قوة أن يقال يقبل قوله فيما أخبر به ; لأنه ثمرة قبول قوله في ذلك ، فلو كان مراد المصنف هاهنا بقوله في الحل في قوله وسعه أكله يصير معنى كلامه لما قبل قوله في قبول قوله فيما أخبر به . ولا حاصل له بل هو من قبيل اللغو من الكلام .

والحق عندي في شرح كلام المصنف هنا أن يقال : يعني أنه لما قبل قوله في الحل : أي فيما يتضمن الحل وهو قوله اشتريته من يهودي أو نصراني أو مسلم فإنه يتضمن إثبات حل أكل ما اشتراه كما صرحوا به قاطبة أولى أن يقبل قوله في الحرمة : أي فيما يتضمن الحرمة وهو قوله اشتريته من غير الكتابي والمسلم فإنه يتضمن إثبات حرمة ما اشتراه كما صرحوا به أيضا تبصر ( قوله لأنه لا فرق بين ما إذا أخبرت بإهداء المولى غيرها أو نفسها لما قلنا ) قال جمهور الشراح : قوله لما قلنا راجع إلى قوله ; لأن الهدايا تبعث عادة على أيدي هؤلاء انتهى .

أقول : لمانع أن يمنع أن نفس الجواري والعبيد تبعث عادة على أيدي هؤلاء ، بخلاف إهداء غير أنفسهم من الهدايا فإنها تبعث عادة على أيديهم بلا مجال النكير من أحد . وقال صاحب الغاية : قوله لما قلنا إشارة إلى قوله فلو لم يقبل قولهم يؤدي إلى الحرج ، وتبعه العيني . أقول : ولمانع أن يمنع أن عدم قبول قولهم في إهداء مواليهم أنفسهم يؤدي إلى الحرج لإمكان إهدائهم على أيدي غيرهم من سائر العبيد والجواري أو الصبيان وعدم القدرة على غيرهم أصلا نادر لا يعد مثله مؤديا إلى الحرج بخلاف إهداء الهدايا مطلقا على أيدي غير جنس العبيد والجواري والصبيان فإن فيه حرجا بينا سيما في إهداء الأمور الخسيسة ( قوله ويقبل في المعاملات قول الفاسق ولا يقبل في الديانات إلا قول العدل ) قال في التلويح : قيل ذكر فخر الإسلام في موضع من كتابه أن إخبار المميز الغير العدل يقبل في مثل الوكالة والهدايا [ ص: 10 ] من غير انضمام التحري ، وفي موضع آخر أنه يشترط التحري وهو المذكور في كلام الإمام السرخسي . ومحمد رحمه الله ذكر القيد في كتاب الاستحسان ولم يذكره في الجامع الصغير ، فقيل : يجوز أن يكون المذكور في كتاب الاستحسان تفسيرا لهذا فيشترط ، ويجوز أن يشترط استحسانا ولا يشترط رخصة ، ويجوز أن يكون في المسألة روايتان انتهى .

أقول : يشكل على التوجيه الأول الفرق بين المعاملات والديانات لأن قول الفاسق يقبل في الديانات أيضا بشرط التحري كما سيأتي التصريح به في الكتاب ، وكذا يشكل ذلك على التوجيه الثالث على إحدى الروايتين وهي رواية الاشتراط ، فالظاهر المناسب عندي هو التوجيه الثاني .

فإن الفرق المذكور يستقيم حينئذ ، إذ لا رخصة لقبول قول الفاسق في الديانات بدون التحري ( قوله ولا يقبل فيها قول المستور في ظاهر الرواية . وعن أبي حنيفة رحمه الله أنه يقبل قوله فيها جريا على مذهبه أنه يجوز القضاء به ) قال الشراح : وظاهر الرواية أصح ; لأنه لا بد من اعتبار أحد شطري الشهادة ليكون الخبر ملزما ، وقد سقط اعتبار العدد فبقي اعتبار العدالة انتهى .

أقول : فيه بحث لأن أصل أبي حنيفة في الشهادة أن يقتصر الحاكم على ظاهر العدالة إذا لم يطعن الخصم فيما عدا الحدود والقصاص كما تقرر في كتاب الشهادات ، فكان أحد شطري الشهادة عنده ظاهر العدالة دون حقيقتها ، ولا ريب أن المستور ظاهر العدالة لقوله عليه الصلاة والسلام { المسلمون عدول بعضهم على بعض ، إلا محدودا في قذف } ففي غير ظاهر الرواية أيضا لم يلزم عدم اعتبار أحد شطري الشهادة فلم يدل ما ذكروه على أصحية ظاهر الرواية . ويمكن أن يقال : ليس مقصودهم بيان أصحية ظاهر الرواية على أصل أبي حنيفة في الشهادة بل على ما يقتضيه فساد الزمان من عدم الاعتداد برواية المستور ما لم تتبين عدالته ، كما لم تعتبر شهادته في القضاء عند أبي يوسف ومحمد رحمهما الله ما لم يظهر عدالته . وعن هذا قال المصنف في كتاب الشهادات : والفتوى على قولهما في هذا الزمان . ويؤيد هذا التوجيه ما ذكره صاحب غاية البيان نقلا عن شمس الأئمة السرخسي حيث قال : قال شمس الأئمة السرخسي في أصوله : وروى الحسن عن أبي حنيفة أنه بمنزلة العدل في رواية الأخبار لثبوت العدالة ظاهرا بالحديث المروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن عمر رضي الله عنها " المسلمون عدول بعضهم على بعض " ولهذا جوز أبو حنيفة القضاء بشهادة المستور فيما يثبت مع الشبهات إذا لم يطعن الخصم ، ولكن ما ذكره في الاستحسان أصح في زماننا ، فإن الفسق غالب في أهل هذا الزمان فلا يعتمد على رواية المستور ما لم تتبين عدالته ، كما لا تعتبر شهادته في القضاء قبل أن تظهر عدالته انتهى .

وبما ذكرنا تبين اختلال تحرير بعض المتأخرين في هذا المقام حيث قال في شرح قول المصنف ولا يقبل قول المستور في ظاهر الرواية : أي ولا يقبل قوله في الديانات في ظاهر الرواية عن أبي حنيفة رحمه الله . ثم قال : وجه الظاهر أنه لا بد من اعتبار أحد شطري الشهادة ليكون الخبر ملزما ، وقد سقط اعتبار العدد فبقي اعتبار العدالة انتهى . فإنه جعل ما ذكروه وجها لأصحية ظاهر الرواية وجها لنفس ظاهر الرواية عن أبي حنيفة ، فيرد عليه قطعا أن حقيقة العدالة ليست بأحد شطري الشهادة عند أبي حنيفة ، بل يكفي ظاهر العدالة عنده في قبول الشهادة ، ولا يخفى أن ظاهر العدالة متحقق في المستور فما معنى اعتبار حقيقة العدالة في قبول قوله في الديانات في ظاهر [ ص: 11 ] الرواية عنه فتدبر




الخدمات العلمية