الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( وإذا عفا أحد الشركاء من الدم أو صالح من نصيبه على عوض سقط حق الباقين عن القصاص وكان لهم نصيبهم من الدية ) .

[ ص: 241 ] وأصل هذا أن القصاص حق جميع الورثة ، وكذا الدية خلافا لمالك والشافعي في الزوجين . لهما أن الوراثة خلافة وهي بالنسب دون السبب لانقطاعه بالموت ، ولنا { أنه عليه الصلاة والسلام أمر بتوريث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم } ، [ ص: 242 ] ولأنه حق يجري فيه الإرث ، حتى أن من قتل وله ابنان فمات أحدهما عن ابن كان القصاص بين الصلبي وابن الابن فيثبت لسائر الورثة ، والزوجية تبقى بعد الموت حكما في حق الإرث أو يثبت بعد الموت مستندا إلى سببه وهو الجرح ، وإذا ثبت للجميع فكل منهم يتمكن من الاستيفاء والإسقاط عفوا وصلحا ومن ضرورة سقوط حق البعض في القصاص سقوط حق الباقين فيه ، لأنه لا يتجزأ ، بخلاف ما إذا قتل رجلين وعفا أحد الوليين لأن الواجب هناك قصاصان من غير شبهة لاختلاف القتل والمقتول وهاهنا واحد لاتحادهما ، وإذا سقط القصاص ينقلب نصيب الباقين مالا لأنه امتنع لمعنى راجع إلى القاتل ، وليس للعافي شيء من المال لأنه أسقط حقه بفعله ورضاه ، ثم يجب ما يجب من المال في ثلاث سنين وقال زفر : يجب في سنتين فيما إذا كان بين الشريكين وعفا أحدهما ، لأن الواجب نصف الدية فيعتبر بما إذا قطعت يده خطأ .

[ ص: 243 ] ولنا أن هذا بعض بدل الدم وكله مؤجل إلى ثلاث سنين فكذلك بعضه ، والواجب في اليد كل بدل الطرف وهو في سنتين في الشرع ويجب في ماله لأنه عمد . .

التالي السابق


( قوله وإذا عفا أحد الشركاء من الدم أو صالح من نصيبه على عوض سقط حق الباقين من القصاص وكان لهم نصيبهم من الدية ) أقول : في عبارة الكتاب هاهنا فتور من وجوه : الأول أن كلمة عفا تعدى بعن وقد عداها في الكتاب بمن حيث قال : من الدم .

والثاني أنه يقال صالح عن كذا على عوض ، وذكر في الكتاب كلمة من موضع كلمة عن حيث قال : أو صالح من نصيبه على عوض والثالث أن عبارة النصيب في قوله أو صالح من نصيبه توهم تجزؤ القصاص لأن النصيب هو الحصة ، وقد تقرر فيما مر أن القصاص غير متجزئ فيثبت كاملا لكل واحد من أولياء القتيل ، فالأظهر في وضع هذه المسألة أن يقال : وإذا عفا أحد الشركاء عن الدم أو صالح عن حقه على عوض سقط حق الباقين في القصاص وكان لهم نصيبهم من الدية ، والتعبير بالنصيب إنما أصاب المجزء في قوله وكان لهم نصيبهم من الدية لأن الدية متجزئة لكونها من قبيل الأموال فكان لكل واحد منهم نصيب منها بقدر حقه من الإرث .

وأما حق التعبير في شأن القصاص فأن يذكر لفظ الحق بدل لفظ النصيب كما نبهنا عليه وعن هذا قال المصنف عند تقرير دليلنا على هذه المسألة .

ومن ضرورة سقوط حق البعض في القصاص سقوط حق الباقين فيه لأنه لا يتجزأ . [ ص: 241 ] قوله ( وأصل هذا أن القصاص حق جميع الورثة وكذا الدية خلافا لمالك والشافعي في الزوجين ) قال صاحب النهاية : هذا اللفظ كما ترى يدل على أنه ليس للزوجين حق في القصاص والدية جميعا عندهما ، ونقل عن المبسوط والإيضاح والأسرار ما يدل على أن خلاف مالك في الزوجين في الدية خاصة . وأما في حق القصاص ففيه خلاف ابن أبي ليلى في الزوجين ، ونقل عن الأسرار أن الشافعي يقول : لا حظ للنساء في استيفاء القصاص ولهن حق العفو .

ثم قال : وبهذا يعلم أن ما ذكره في الكتاب من أنه لا حظ للزوجين في القصاص والدية عند مالك والشافعي مخالف لرواية المبسوط والإيضاح والأسرار . أقول : فيه نظر ، لأن ما ذكر في الكتاب إنما يكون مخالفا لرواية تلك الكتب لو كان معناه أنه لا حق للزوجين في القصاص والدية جميعا عند مالك والشافعي ، وهو غير مسلم لجواز أن يكون قول المصنف خلافا لمالك والشافعي في الزوجين متعلقا بقوله وكذا الدية وحده لا بمجموع قوله وأصل هذا أن القصاص حق جميع الورثة وكذا الدية ، ولا يخلو عن نوع إرشاد إليه فصل قوله وكذا الدية بذكر لفظة كذا ، إذ لو كان مراده الجمع بين القصاص والدية في بيان الخلاف أيضا لقال : وأصل هذا أن القصاص والدية حق جميع الورثة خلافا لمالك والشافعي في الزوجين .

وعن هذا قال تاج الشريعة في شرح قوله خلافا لمالك والشافعي في الزوجين : فعندهما لا يرث الزوج والزوجة من الدية شيئا لأن وجوبه بعد الموت والزوجية تنقطع به انتهى . حيث لم يتعرض للقصاص في شرح ذلك ، ويوافقه تحرير صاحب الكافي هاهنا حيث قال : والأصل أن القصاص حق الورثة وكذا الدية . وقال مالك والشافعي : لا يرث الزوجان من الدية شيئا انتهى .

وقال صاحب العناية بعد نقل ما في النهاية : وهو مؤاخذة ضعيفة لأنه لا يلزم من المخالفة لها عدم صحة ما نقله ، والمشهور من مذهبهما ما نقله انتهى .

أقول : بل ما ذكره نفسه ضعيف ، لأن صاحب النهاية لم يدع عدم صحة ما في الكتاب بالكلية ، بل أراد بيان مخالفته لما في الكتب الثلاثة المعتبرة المقبولة بين الفقهاء لا سيما المبسوط والأسرار فإن صاحبيهما من أساطين الأئمة ، ولا نسلم أن المشهور من مذهب مالك والشافعي أن ليس للزوجين حق في القصاص والدية جميعا ، بل المشهور من مذهبهما ما ذكر في تلك الكتب ، فالأوجه التوفيق بين ما ذكر فيها وبين ما ذكر في الكتاب بما نبهنا عليه آنفا ( قوله ولنا أنه عليه الصلاة والسلام أمر بتوريث امرأة أشيم الضبابي من عقل زوجها أشيم ) أقول : فيه شيء ، وهو أن هذا [ ص: 242 ] الدليل لا يفيد تمام المدعي هاهنا ، فإنه إنما يدل على ثبوت الاستحقاق بالزوجية في حق الدية ، ولا يدل على ثبوت ذلك في حق القصاص ، والعمدة هاهنا هو الثاني ، وإنما ذكر الآخر استطرادا كما ترى .

( قوله ولأنه حق يجري فيه الإرث ، حتى أن من قتل وله ابنان فمات أحدهما عن ابن كان القصاص بين الصلبي وابن الابن فيثبت لسائر الورثة ) أقول : فيه أيضا شيء ، وهو أن هذا التعليل وإن كان يتمشى في القصاص أيضا إلا أنه لا يتمشى فيه على أصل أبي حنيفة ، وإنما يتمشى فيه على أصل أبي يوسف ومحمد ، فإنه سيجيء في أول باب الشهادة في القتل أن القصاص طريقه طريق الوراثة عندهما كالدين والدية ، وأما عنده فطريقه طريق الخلافة دون الوراثة فلا يصح أن يقال من قبله إنه حق يجري فيه الإرث مع أن المدعي هاهنا وهو قوله وأصل هذا أن القصاص حق جميع الورثة وكذا الدية مما اتفق عليه أئمتنا قاطبة فكيف يتم تعليل المتفق عليه بالمختلف فيه .

وقول المصنف في تتمته : حتى أن من قتل وله ابنان فمات أحدهما عن ابن كان القصاص بين الصلبي وابن الابن لا يجدي نفعا لأنه إنما يدل على جريان الإرث فيه من غير المقتول ، ولا كلام فيه إذ لا خلاف فيه بين أئمتنا الثلاثة ، فإن حق القصاص هناك يثبت عندهم جميعا للمورث الغير المقتول قبل موته وراثة من المقتول عندهما وخلافة عنه لا وراثة عند أبي حنيفة ، بخلاف المقتول فإن حق القصاص لا يثبت له قبل موته عنده ، بل إنما يثبت عنده بعد موته لورثته ابتداء لتشفي الصدور كما ستطلع على تفصيله في بابه ، والكلام هاهنا في ورثة نفس المقتول فلا يتم التقريب على أصله فليتأمل .

ثم إن صاحب العناية قال في شرح هذا التعليل : وأما الثاني فلأنهما موروثان كسائر الأموال بالاتفاق فيجب أن يكونا في حق الزوجين كذلك لأن وجوبهما أولا للميت ، ثم يثبت للورثة ولا يقع للميت إلا بأن يسند الوجوب إلى سببه وهو الجرح ، فكانا كسائر الأموال في ثبوتهما قبل الموت انتهى ، أقول : قد زاد هذا [ ص: 243 ] الشارح هاهنا نغمة في الطنبور حيث زاد فسادا على فساد ، لأنه مع إتيانه في تضاعيف شرحه بما يقرر أن لا يتم هذا التعليل على أصل أبي حنيفة وهو قوله لأن وجوبهما أولا للميت ثم يثبت للورثة صرح بأنهما يعني القصاص والدية موروثان كسائر الأموال بالاتفاق .

وقد عرفت أن القصاص ليس بموروث من المقتول عند أبي حنيفة ، بخلاف سائر الأموال فالتصريح بالاتفاق فساد فوق فساد ، والله الهادي إلى سبيل الرشاد




الخدمات العلمية