الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ولا يحل له أن يمس وجهها ولا كفيها وإن كان يأمن الشهوة ) لقيام المحرم وانعدام الضرورة والبلوى ، بخلاف النظر لأن فيه بلوى . والمحرم قوله عليه الصلاة والسلام { من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع على كفه جمرة يوم القيامة } وهذا إذا كانت شابة تشتهى ، أما إذا كانت عجوزا لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها ومس يدها لانعدام خوف الفتنة . وقد روي أن أبا بكر رضي الله عنه كان يدخل بعض القبائل التي كان مسترضعا فيهم وكان يصافح العجائز ، وعبد الله بن الزبير رضي الله عنه استأجر عجوزا لتمرضه ، وكانت تغمز رجليه [ ص: 26 ] وتفلي رأسه ، وكذا إذا كان شيخا يأمن على نفسه وعليها لما قلنا ، فإن كان لا يأمن عليها لا تحل مصافحتها لما فيه من التعريض للفتنة . والصغيرة إذا كانت لا تشتهى يباح مسها والنظر إليها لعدم خوف الفتنة .

التالي السابق


( المرأة الأجنبية ) ( قوله وهذا إذا كانت شابة تشتهى ، أما إذا كانت عجوزا لا تشتهى فلا بأس بمصافحتها ومس يدها لانعدام خوف الفتنة ) قال بعض المتأخرين : يريد أن حرمة مس الوجه والكف تختص بما إذا كانت شابة ، أما إذا كانت عجوزا لا تشتهى فلا بأس بمسهما انتهى .

أقول : ليس هذا بشرح صحيح ، إذ لم يذكر في هذا الكتاب ولا في غيره من كتب الفقه عدم البأس بمس وجه المرأة الأجنبية وإن كانت عجوزا ، وإنما المذكور هنا وفي سائر الكتب عدم البأس بمس كفها إذا كانت عجوزا ، والأصل فيه ما روي { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصافح العجائز في البيعة ولا يصافح الشواب } كما ذكر في المحيط وغيره ، وما روي عن أبي بكر وعبد الله بن الزبير كما ذكر في الكتاب . نعم ظاهر الدليل العقلي وهو قوله لانعدام خوف الفتنة لا يأبى عن التعميم ، لكن لا مجال لاختراع مسألة بمجرد ذلك بدون أن تذكر في الكتب نقلا عن الأئمة أو المشايخ . ثم إن تاج الشريعة اعترض على قوله لانعدام خوف الفتنة ، وأجاب حيث قال : فإن قلت : هذا تعليل في مقابلة النص ، وهو ما ذكر في الكتاب من مس كف امرأة ليس منها بسبيل وضع على كفه جمرة يوم القيامة . قلت : المراد امرأة تدعو النفس إلى مسها ، أما إذا تهربت العين من رؤيتها وانزوى الخاطر من لقائها فلا ، انتهى كلامه .

واقتفى أثره صاحب الكفاية . أقول : يرد الاعتراض المذكور على قول المصنف فيما بعد ، وكذا إذا كان شيخا يأمن على نفسه وعليها لما قلنا . فإن قوله لما قلنا إشارة إلى قوله لانعدام خوف الفتنة كما لا يخفى ، وقد صرح به بعض الشراح . ولا يتمشى الجواب المذكور هناك [ ص: 26 ] إذ الظاهر أن تلك المسألة فيما إذا كانت شابة تشتهى ، يدل على ذلك عطفها على قوله إذا كانت عجوزا لا تشتهى ، ولا شك أن الشابة المشتهاة ممن تدعو النفس إلى مسها فكانت داخلة تحت النص المذكور فلا محالة يكون التعليل بقوله لما قلنا تعليلا في مقابلة النص ، وهو لا يجوز كما عرف في الأصول . فإن قلت : تلك المسألة مقيدة بأن يأمن على نفسه وعليها فلا تتحقق دعوتها النفس إلى مسها في تلك الصورة .

قلت : إن لم تتحقق دعوتها النفس إلى مسها بالفعل في تلك الصورة فمن شأنها ذلك في كل حال . والظاهر أن مراده بالمرأة المذكورة في النص المذكور هي المرأة الصالحة لأن تدعو النفس إلى مسها لا التي تحققت فيها دعوتها إليه بالفعل .

وإلا لزم أن لا يثبت حرمة مس الرجل الشاب المرأة الأجنبية الشابة إذا أمن على نفسه وعليها تأمل تقف .

( قوله وكذا إذا كان شيخا يأمن على نفسه وعليها ) قال بعض المتأخرين : اشتراط أمنه عليها محل تأمل لعدم كون ذلك في وسعه لعدم الوقوف عليه ا هـ . أقول : يمكن الوقوف عليه بالقرائن الحالية أو بالتجربة في نظائرها ، فجاز اشتراط أمنه عليها أيضا بناء على ذلك ( قوله فإن كان لا يأمن عليها لا تحل مصافحتها ) قال بعض المتأخرين : تخصيص عدم أمنه بكونه عليها غير ظاهر أيضا ، فإن جعلنا الضمير في عليها للنفس يلزم التخصيص من وجه آخر انتهى .

أقول : الضمير في عليها للمرأة ، ووجه تخصيص عدم الأمن عليها بالذكر ظاهر وهو حصول العلم بحكم عدم الأمن على نفسه دلالة من بيان حكم عدم الأمن عليها عبارة ، فإنه إذا لم تحل مصافحتها عند عدم الأمن عليها لما فيه من تعريض الغير للفتنة فلأن لا تحل مصافحتها عند عدم الأمن على نفسه أولى لما فيه من المباشرة للفتنة بنفسه .




الخدمات العلمية