الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال : ( وإن استأجر أجراء فحفروها له في غير فنائه فذلك على المستأجر ولا شيء على الأجراء إن لم يعلموا أنها في غير فنائه ) لأن الإجارة صحت ظاهرا إذا لم يعلموا فنقل فعلهم إليه لأنهم كانوا مغرورين ، فصار كما إذا أمر آخر بذبح هذه الشاة فذبحها ثم ظهر أن الشاة لغيره ، إلا أن [ ص: 315 ] هناك يضمن المأمور ويرجع على الآمر لأن الذابح مباشر والآمر مسبب والترجيح للمباشرة فيضمن المأمور ويرجع المغرور ، وهنا يجب الضمان على المستأجر ابتداء لأن كل واحد منهما مسبب والأجير غير متعد والمستأجر متعد فيرجح جانبه ( وإن علموا ذلك فالضمان على الأجراء ) لأنه لم يصح أمره بما ليس بمملوك له ولا غرور فبقي الفعل مضافا إليهم ( وإن قال لهم : هذا فنائي وليس لي فيه حق الحفر فحفروا ومات فيه إنسان ) فالضمان [ ص: 316 ] على الأجراء قياسا ( لأنهم علموا بفساد الأمر فما غرهم ) وفي الاستحسان الضمان على المستأجر ( لأن كونه فناء له بمنزلة كونه مملوكا له لانطلاق يده في التصرف فيه من إلقاء الطين والحطب وربط الدابة والركوب وبناء الدكان فكان الأمر بالحفر في ملكه ظاهرا بالنظر إلى ما ذكرنا فكفى ذلك لنقل الفعل إليه . قال ) : ومن جعل قنطرة بغير إذن الإمام فتعمد رجل المرور عليها فعطب فلا ضمان على الذي عمل القنطرة ، وكذلك ( إذا وضع خشبة في الطريق فتعمد رجل المرور عليها ) لأن الأول تعد هو تسبيب ، والثاني تعد هو مباشرة فكانت الإضافة إلى المباشر أولى ، ولأن تخلل فعل فاعل مختار يقطع النسبة كما في الحافر مع الملقي . .

التالي السابق


( قوله وإن علموا بذلك فالضمان على الأجراء لأنه لم يصح أمره بما ليس بمملوك له ولا غرور فبقي الفعل مضافا إليهم ) قال صاحب العناية : في عبارة المصنف تسامح ، لأن صحة الأمر فيما نحن فيه لا تحتاج إلى كون المأمور به في ملكه حتى يصح التعليل بقوله لأنه لم يصح أمره بما ليس بمملوك له ، بل المناسب أن يقال : لأن الأمر لم يصح ظاهرا حيث علموا ا هـ . أقول : ليس هذا بسديد ، لأن مدار زعمه التسامح في عبارة المصنف على الغفلة عن دخول قوله ولا غرور في تمام التعليل ، ولا شك أنه داخل فيه ، فقوله لم يصح أمره بما ليس بمملوك له إشارة إلى انتفاء صحة أمره حقيقة . وقوله ولا غرور إشارة إلى انتفاء صحته ظاهرا ، والمعنى لم يصح أمره حقيقة لانتفاء الملك في المأمور به ، ولا ظاهرا لعدم الغرور حيث علموا ، فظهر أن ما ذكره المصنف تعليل مفيد واسع ليس بمثابة أن يقال : لأن الأمر لم يصح ظاهرا حيث علموا كما ترى ، فلم يتم القول بأن ذلك [ ص: 316 ] هو المناسب ( قوله فكان الأمر بالحفر في ملكه ظاهرا بالنظر إلى ما ذكرنا ) يعني قوله لأن كونه فناء له بمنزلة كونه مملوكا له لانطلاق يده في التصرف فيه إلخ .

قال في العناية أخذا من معراج الدراية : فإن قيل : قوله ليس لي فيه حق الحفر يخالف هذا الظاهر وهو صريح فلا تعتبر الدلالة بمقابلته . أجيب بأن قوله ليس لي فيه حق الحفر يحتمل أن يكون مراده ليس لي ذلك في القديم ، وهكذا لفظ المبسوط ، فيكون الصريح مشترك الدلالة فلا يعارض الدلالة انتهى . أقول : في الجواب بحث ، لأن كلمة ليس لنفي مضمون الجملة حالا عند جمهور النحاة على ما تقرر في موضعه ، فحينئذ لا يحتمل قوله ليس لي فيه حق الحفر غير نفي حق الحفر عنه حالا . وأما عند بعض النحاة فكلمة ليس وإن كانت للنفي مطلقا ، إلا أن معناه أن مضمون الجملة إذا قيد بزمان من الأزمنة فهو على ما قيد به . وأما إذا لم يقيد بزمان فيحمل على الحال كما يحمل الإيجاب عليه في نحو : زيد قائم كذا حققه الأندلسي واستحسنه الرضي ، وفيما وقع في مسألة الكتاب لم يقيد بزمان فيحمل على الحال كما يحمل الإيجاب عليه قطعا فلم يكن مشترك الدلالة ، كيف ولو كان كذلك لما صح قول المصنف في تعليل كون الضمان على الأجراء قياسا لأنهم علموا بفساد الأمر فما غرهم ، إذ العلم بفساد الأمر لا يتصور عند اشتراك دلالة ذلك .

وأما ما وقع في لفظ المبسوط فالظاهر أن المراد به ليس لي ذلك من القديم لكنه لي في الحال وإلا لما تم وجه الاستحسان . ثم أقول : الحق عندي في الجواب أن يقال : يحتمل أن يكون المراد بذلك ليس لي على الاختصاص حق الحفر فيه على أن يكون اللام في لي للاختصاص فيجوز أن يكون فناء داره حق عامة المسلمين أو مشتركا بأن كانت في سكة غير نافذة كما مر مثله فلا يخالف الظاهر من انطلاق يده في التصرف فيه ، إذ يجوز لكل أحد التصرف في حق العامة بشرط السلامة ، ولا ينافي أيضا قول المصنف في تعليل وجه القياس لأنهم علموا بفساد الأمر فما غرهم ؟ لأن فساد الأمر مقرر على كل من الاحتمالين . أما على احتمال أن يكون المراد ليس لي فيه حق الحفر أصلا : أي على الاختصاص ولا على الاشتراك فظاهر . وأما على احتمال أن يكون المراد ليس لي فيه على الاختصاص حق الحفر فلأن الأمر بالحفر في حق العامة أو في الحق المشترك بدون إذن الشريك فاسد لأنه تعد ، ولهذا لو فعله بنفسه فتلف به إنسان أو بهيمة يجب عليه الضمان




الخدمات العلمية