الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال ( ولا يصح الرهن إلا بدين مضمون ) ; لأن حكمه ثبوت يد الاستيفاء ، والاستيفاء يتلو الوجوب

قال رضي الله عنه : ويدخل على هذا اللفظ الرهن بالأعيان المضمونة بأنفسها ، فإنه يصح الرهن بها ولا دين

ويمكن أن يقال : إن الواجب الأصلي فيها هو القيمة ورد [ ص: 145 ] العين مخلص على ما عليه أكثر المشايخ وهو دين ولهذا تصح الكفالة بها ، ولئن كان لا يجب إلا بعد الهلاك ولكنه يجب عند الهلاك بالقبض السابق ، ولهذا تعتبر قيمته يوم القبض فيكون رهنا بعد وجود سبب وجوبه فيصح كما في الكفالة ، ولهذا لا تبطل الحوالة المقيدة به بهلاكه ، بخلاف الوديعة ، قال ( وهو مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين ، فإذا هلك في يد المرتهن ، وقيمته والدين سواء صار المرتهن مستوفيا لدينه ، وإن كانت [ ص: 146 ] قيمة الرهن أكثر فالفضل أمانة في يده ) ; لأن المضمون بقدر ما يقع به الاستيفاء وذاك بقدر الدين ( وإن كانت أقل سقط من الدين بقدره ورجع المرتهن بالفضل ) ; لأن الاستيفاء بقدر المالية

وقال زفر : الرهن مضمون بالقيمة ، حتى لو هلك الرهن ، وقيمته يوم الرهن ألف وخمسمائة والدين ألف رجع الراهن على المرتهن بخمسمائة

له حديث علي رضي الله عنه قال " يترادان الفضل في الرهن " ولأن الزيادة على الدين مرهونة لكونها محبوسة به فتكون مضمونة اعتبارا بقدر الدين

ومذهبنا مروي عن عمر وعبد الله ابن مسعود رضي الله عنهم ، ولأن يد المرتهن يد الاستيفاء فلا توجب الضمان إلا بالقدر المستوفي كما في حقيقة الاستيفاء ، والزيادة مرهونة به ضرورة امتناع حبس الأصل بدونها ولا ضرورة في حق الضمان

والمراد بالتراد فيما يروى حالة البيع ، فإنه روي عنه أنه قال : المرتهن أمين في الفضل .

[ ص: 144 ]

التالي السابق


[ ص: 144 ] ( قوله ويدخل على هذا اللفظ الرهن بالأعيان المضمونة بأنفسها فإنه يصح الرهن بها ولا دين ) يعني : يرد على هذا اللفظ : أي على لفظ القدوري وهو قوله ولا يصح الرهن إلا بدين مضمون الرهن بالأعيان المضمونة بأنفسها : أي الإشكال بصحة الرهن بالأعيان المضمونة بأنفسها ، وهي ما يجب مثله عند هلاكه إن كان مثليا ، وقيمته إن كان قيميا ، كالمغصوب والمقبوض على سوم الشراء ونحوهما فإنه يصح الرهن بتلك الأعيان ولا دين فيها

وأجاب المصنف عن هذا الإشكال بقوله : ويمكن أن يقال إلى آخره ، كذا قاله الشراح قاطبة ، غير أن صاحب غاية البيان بعد أن وافق سائر الشراح في شرح هذا المحل على الوجه المذكور قال : قلت لا يرد على القدوري الاعتراض رأسا ; لأنه لا ينفي صحة الرهن بالأعيان المضمونة بأنفسها بل صرح بصحته في شرحه لمختصر الكرخي ، وإنما اقتصر ها هنا على الدين ; لأن الغالب في الرهن أن يكون بالدين ، واكتفى به ها هنا اعتمادا على ما ذكره في موضع آخر ، إلى هنا لفظه

أقول : لا ينبغي لمن له أدنى تمييز فضلا عن مثل ذلك الشارح أن يقول : إن القدوري لم ينف في مختصره صحة الرهن بالأعيان المضمونة بأنفسها بعد أن رأى ما في لفظه وهو قوله : ولا يصح الرهن إلا بدين مضمون من أداة قصر الصحة على الرهن بالدين وهي النفي والاستثناء .

وإنما يصح ما قاله الشارح المزبور أن لو كان لفظ القدوري في مختصره ويصح الرهن بالدين ، ولما كان لفظه فيه ولا يصح الرهن إلا بالدين لم يبق له مجال

وقوله بل صرح بصحته في شرحه لمختصر الكرخي لا يجدي شيئا في دفع الإشكال الوارد على لفظه في مختصره ، وقد تداركه المصنف بقوله ويدخل على هذا اللفظ

وأما حمل القصر الواقع في هذا المختصر على القصر الادعائي فبمعزل عن مساعدة هذا الفن إياه ، فإن مجرد تخصيص الشيء بالذكر [ ص: 145 ] في الروايات الواقعة في هذا الفن يدل على نفي الحكم عما عداه كما صرحوا به ، فما ظنك بدلالة أداة القصر على ذلك ( قوله : ولهذا تصح الكفالة بها ) قال في العناية : واعترض بأن صحة الكفالة بها لا تستلزم صحة الرهن ، فإنها تصح بدين سيجب كما لو قال ما ذاب لك على فلان فعلي دون الرهن

وأجيب بأن قوله ما ذاب لك إضافة للكفالة لا كفالة

ويصح أن يقال : قولك دون الرهن تريد به دينا ما انعقد سبب وجوبه أو دينا انعقد ذلك ، فإن كان الأول فليس كلامنا فيه ، وإن كان الثاني فهو ممنوع فإنه عين ما نحن فيه انتهى

أقول : الاعتراض والجواب لتاج الشريعة ، ولهما وجه صحة

وأما قوله : ويصح أن يقال إلى آخره فمن عند صاحب العناية نفسه يريد به الجواب عن الاعتراض المذكور بوجه آخر ، وليس له وجه صحة ; إذ المراد هو الأول

قوله فليس كلامنا فيه ليس بشيء ; لأن عدم كون كلامنا فيه لا يضر بغرض السائل بل بعينه ، فإن مقصوده القدح في قول المصنف ولهذا تصح الكفالة بها بأن صحة الكفالة لا تدل على صحة الرهن ; لأن الكفالة تصح بدين سيجب ولم ينعقد سبب وجوبه ، ولا يصح الرهن بذلك بلا خلاف فيجوز أن تصح الكفالة بالعين المضمون بنفسه أيضا الذي كلامنا فيه ، ولا يصح الرهن به فلم يتم الاستدلال بصحة الكفالة به على صحة الرهن به

ولا يخفى أن عدم كون كلامنا في الدين الذي لم ينعقد سبب وجوبه لا يدفع الاعتراض بهذا الوجه ، وإنما يدفعه ما أشار إليه تاج الشريعة من منع صحة الكفالة بدين سيجب ولم ينعقد سبب وجوبه .

وإنما قوله ما ذاب لك على فلان فعلي إضافة الكفالة إلى ذلك الدين لا عقد كفالة به منجزة ، ومراد المصنف بالكفالة في قوله : ولهذا تصح الكفالة به هي الكفالة المنجزة فتم الاستدلال ( قوله : ولهذا يعتبر قيمته يوم القبض ) أقول : هذا التنوير لا يتم إلا على قول أبي يوسف ، فإن المعتبر عند أبي حنيفة قيمته يوم الخصومة وعند محمد قيمته يوم الانقطاع كما مر تفصيله في صدر كتاب الغصب ، مع أن صحة الرهن بالأعيان المضمونة بأنفسها على قول أئمتنا جميعا فلا يتم التقريب إلا على قول أبي يوسف ، وليت شعري لم لم يتعرض لهذا أحد من الشراح ( قوله وهو مضمون بالأقل من قيمته ومن الدين ) قال بعض الشراح : وقع في بعض [ ص: 146 ] نسخ القدوري بأقل من قيمته ومن الدين ، وليس بصحيح ; لأن معنى المعرف واحد منهما ومعنى المنكر ثالث ، واعتبر هذا بقول الرجل مررت بأعلم من زيد وعمرو يكون الأعلم غيرهما ، ولو قال مررت بالأعلم من زيد وعمرو يكون الأعلم واحد منهما ، والمراد ها هنا واحد من القيمة والدين وهو أقلهما لا أمر ثالث

ثم إن تاج الشريعة من الشراح بين وجه اختلاف المعنى بين المعرف والمنكر حيث قال : والمعنى فيه أن كلمة " من " في قوله منهما للتبعيض والأقل يصلح بعضا ; إذ الأقل مع منهما معرفتان ، بخلاف : أقل منهما ; لأن أقل نكرة وهما معرفة والمعرفة لا تتناول النكرة انتهى كلامه

أقول : ليس هذا بسديد ، إذ لا نسلم أن المعرفة لا تتناول النكرة تناول الكل للجزء كما هو مقتضى من التبعيضية ، نعم إن المعرفة والنكرة لا يتحدان ; لأن مدلول المعرفة شيء بعينه ومدلول النكرة شيء لا بعينه ، وهما متضادان فلا يتحدان

وأما كون المبهم بعضا من المعين فلا استحالة فيه ، بل هو أمر شائع مستعمل ; ألا ترى إلى قولنا واحد منهما أو جزء منهما أو بعض منهما يكون كذا فإنه صحيح بلا ريب وشائع مستعمل ، مع أن كلمة واحد وجزء وبعض نكرة ، وكلمة هما في منهما معرفة ومن للتبعيض ، على أن الوجه المذكور للفرق بين أن يكون اسم التفضيل معرفا وبين أن يكون منكرا إنما يتمشى فيما إذا كان مدخول كلمة " من " معرفة ولا يتمشى فيما إذا كان مدخولها نكرة ، إذ لا يلزم إذ ذاك تناول المعرفة للنكرة مثلا لو كانت العبارة فيما نحن فيه أقل من قيمة ودين لزم أن لا يكون فرق في المعنى بين [ ص: 147 ] تعريف الأقل وتنكيره وليس كذلك قطعا

وذكر بعض الفضلاء وجها آخر للفرق بين المعرف والمنكر حيث قال : إذ تكون من في المنكر تفضيلية لوجوب استعمال الأفعل بأحد الأشياء الثلاثة ، وتكون في المعرف للبيان لعدم جواز الجمع بين من وحرف التعريف وموضعه كتب النحو

ثم قال : وفيه بحث ، إذ قد تحذف " من " من اللفظ وها هنا أيضا كذلك ، والقرينة على الحذف شهرة المذهب انتهى

أقول : الحق في الفرق ما قاله ذلك البعض وبحثه ساقط ; إذ قد تقرر في علم النحو أنه لا يجوز استعمال اسم التفضيل بدون أحد الأشياء الثلاثة ، إلا أن يعلم المفضل عليه ويتعين كما في قوله تعالى { يعلم السر وأخفى } وقوله تعالى { ولذكر الله أكبر } وفيما نحن فيه لا يتعين المفضل عليه ولا يعلم على تقدير أن ينكر اسم التفضيل ، ولم يجعل كلمة من تفضيلية وادعاء كونه معلوما بقرينة شهرة المذهب غير مسموع ; لأنه الآن بصدد بيان المذهب في هذه المسألة ، ولم يبين من قبل في موضع آخر فمن أين حصلت الشهرة ، كيف ولو تحققت الشهرة في مسألتنا هذه بحيث جاز بها ترك ما لا بد منه في استعمال صيغة التفضيل لاستغنى عن ذكرها وبيانها ها هنا بالكلية




الخدمات العلمية