الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( ومن استعار من غيره ثوبا ليرهنه فما رهنه به من قليل أو كثير فهو جائز ) ; لأنه متبرع بإثبات ملك اليد فيعتبر بالتبرع بإثبات ملك العين واليد وهو قضاء الدين ، ويجوز أن ينفصل ملك اليد عن ملك العين ثبوتا للمرتهن كما ينفصل زوالا في حق البائع ، والإطلاق واجب الاعتبار خصوصا في الإعارة ; لأن الجهالة فيها لا تفضي إلى المنازعة ( ولو عين قدرا [ ص: 186 ] لا يجوز للمستعير أن يرهنه بأكثر منه ، ولا أقل منه ) ; لأن التقييد مفيد ، وهو ينفي الزيادة ; لأن غرضه الاحتباس بما تيسر أداؤه ، وينفي النقصان أيضا ; لأن غرضه أن يصير مستوفيا للأكثر بمقابلته عند الهلاك ليرجع به عليه ( وكذلك التقييد بالجنس وبالمرتهن وبالبلد ) ; لأن كل ذلك مفيد لتيسر البعض بالإضافة إلى البعض وتفاوت الأشخاص في الأمانة والحفظ ( فإذا خالف كان ضامنا ، ثم إن شاء المعير ضمن المستعير ويتم عقد الرهن فيما بينه وبين المرتهن ) ; لأنه ملكه بأداء الضمان فتبين أنه رهن ملك نفسه ( وإن شاء ضمن المرتهن ، ويرجع المرتهن بما ضمن وبالدين على الراهن ) وقد بيناه في الاستحقاق ( وإن وافق ) بأن رهنه بمقدار ما أمره به ( إن كانت قيمته مثل الدين أو أكثر فهلك عند المرتهن يبطل المال عن الراهن ) لتمام الاستيفاء بالهلاك ( ووجب مثله لرب الثوب على الراهن ) ; لأنه صار قاضيا دينه بماله بهذا القدر وهو الموجب للرجوع دون القبض بذاته ; لأنه برضاه ، وكذلك إن أصابه عيب ذهب من الدين بحسابه ووجب مثله لرب الثوب على الراهن على ما بيناه .

( وإن كانت قيمته أقل من الدين ذهب بقدر القيمة وعلى الراهن بقية دينه للمرتهن ) ; لأنه لم يقع الاستيفاء بالزيادة على قيمته وعلى الراهن لصاحب الثوب ما صار به موفيا لما بيناه ( ولو كانت قيمته مثل الدين فأراد المعير أن يفتكه جبرا عن الراهن لم يكن للمرتهن إذا قضى دينه أن يمتنع ) ; لأنه غير متبرع حيث يخلص ملكه [ ص: 187 ] ولهذا يرجع على الراهن بما أدى المعير فأجبر المرتهن على الدفع ( بخلاف الأجنبي إذا قضى الدين ) ; لأنه متبرع ; إذ هو لا يسعى في تخليص ملكه ولا في تفريغ ذمته فكان للطالب أن لا يقبله ( ولو هلك الثوب العارية عند الراهن قبل أن يرهنه أو بعد ما افتكه فلا ضمان عليه ) ; لأنه لا يصير قاضيا بهذا ، وهو الموجب على ما بينا ( ولو اختلفا في ذلك فالقول للراهن ) لأنه ينكر الإيفاء بدعواه الهلاك في هاتين الحالتين .

( كما لو اختلفا في مقدار ما أمره بالرهن به فالقول للمعير ) ; لأن القول قوله [ ص: 188 ] في إنكار أصله فكذا في إنكار وصفه ( ولو رهنه المستعير بدين موعود وهو أن يرهنه به ليقرضه كذا فهلك في يد المرتهن قبل الإقراض والمسمى والقيمة سواء يضمن قدر الموعود المسمى ) لما بينا أنه كالموجود ويرجع المعير على الراهن بمثله ; لأن سلامة مالية الرهن باستيفائه من المرتهن كسلامته ببراءة ذمته عنه

التالي السابق


( قوله ولو كانت قيمته مثل الدين فأراد المعير أن يفتكه جبرا عن الراهن لم يكن للمرتهن إذا قضى دينه أن يمتنع ) اعلم أن قوله جبرا عن الراهن في أثناء هذه المسألة من مغلقات هذا الكتاب ، وكان لفظ محمد بدل هذا في هذه المسألة حين أعسر الراهن كما ذكره شمس الأئمة السرخسي وفخر الإسلام البزدوي وقد نبه عليه تاج الشريعة وصاحب الكفاية

وعن هذا قال بعضهم : لعل قول المصنف جبرا عن الراهن تصحيف وقع من [ ص: 187 ] الكاتب أو القارئ

وقال صاحب معراج الدراية : معنى قوله جبرا عن الراهن : بغير رضاه ، ويوافقه تقرير صاحب الكافي هذه المسألة حيث قال : ولو كانت قيمته مثل الدين فأراد المعير أن يفتكه جبرا بغير رضا الراهن ليس للمرتهن أن يمتنع إذا قضى دينه

وقال صاحب الكفاية : معنى قوله فأراد المعير أن يفتكه جبرا عن الراهن : أراد أن يفتكه نيابة عن الراهن جبرا عن المرتهن

وقال صاحب العناية : قوله افتكه جبرا عن الراهن قيل معناه : من غير رضاه وليس بظاهر

وقيل نيابة ولعله من الجبران : يعني جبرانا لما فات عن الراهن من القضاء بنفسه انتهى

أقول : فيه كلام أما أولا فلأن ما اختاره من المعنى لا يتمشى فيما إذا أراد المعير أن يفتكه قبل حلول أجل دين الراهن ; إذ لم يفت عن الراهن إذ ذاك القضاء بنفسه لعدم مجيء أوانه حتى يكون افتكاك المعير الرهن هناك بقضاء دين الراهن جبرانا لما فات عنه من القضاء بنفسه ، مع أن تلك الصورة أيضا داخلة في جواب هذه المسألة كما لا يخفى

وأما ثانيا فلأنه لم يسمع في العربية جبر عنه

سواء كان من الجبر بمعنى القهر أو من الجبر بمعنى الجبران ، ومحل الإغلاق في تركيب المصنف إنما هو كلمة عن الداخلة على الراهن لا كون الجبر بمعنى القهر ; إذ هو متحقق في مسألتنا بالنظر إلى المرتهن ، وعلى المعنى الذي اختاره لا يظهر لكلمة : ( عن ) متعلق إلا أن يصار إلى تقدير لما فات جملة ، وجعل كلمة : ( عن ) متعلقة بلفظ فات المندرج في ذلك ، ولا يخفى بعده جدا فكيف يرتكب مع حصول المقصود منه بتقدير متعلق كلمة : عن لفظ نيابة وحده كما فعله صاحب الكفاية ( قوله ولهذا يرجع على الراهن بما أدى ) قال صاحب النهاية : وها هنا قيد لازم ذكره ، فإن قوله يرجع على الراهن بما أدى غير مجرى على إطلاقه ، بل معناه يرجع على الراهن بما أدى إذا كان ما أداه بقدر [ ص: 188 ] الدين لا بأكثر منه من قيمة الثوب ; لأنه ذكر في الإيضاح وفتاوى قاضي خان : فإن عجز الراهن عن الافتكاك فافتكه المالك يرجع بقدر ما يهلك الدين به ولا يرجع بأكثر من ذلك

بيانه إذا كانت قيمة الرهن ألفا فرهنه بألفين فأفتكه المالك بألفين رجع بقدر ما يهلك الدين به وهو الألف ولا يرجع بأكثر من ألف ; لأنه لو هلك الرهن لم يضمن الراهن للمعير أكثر من ذلك ، فكذلك إذا افتكه كان متبرعا بالزيادة انتهى

واقتفى أثره صاحب الكفاية ومعراج الدراية

وقال صاحب العناية بعد نقل ما في النهاية بعبارة نفسه : وليس بوارد على المصنف ; لأنه وضع المسألة فيما إذا كانت القيمة مثل الدين انتهى

أقول : فيه نظر ; لأن قول المصنف ولهذا يرجع على الراهن بما أدى من مقدمات دليل هذه المسألة لا نفس هذه المسألة

ولا يخفى أن مقدمات الدليل لا يجب أن توافق المدعي في الخصوص والعموم ولا في التقييد والإطلاق ; ألا يرى أن كلية الكبرى شرط في أشهر الأقيسة وأقواها

وإن كان المدعي جزئيا فمن أين يلزم من تقييد وضع المسألة تقييد مقدمات دليلها أيضا حتى يستغني عن تقييد هاتيك المقدمة بما ذكره صاحب النهاية وغيره

ثم إن الزيلعي قال في التبيين : وذكر في النهاية أنه إذا افتكه بأكثر من قيمته بأن كان الدين المرهون به أكثر لا يرجع بالزائد على قيمته

وهذا مشكل ; لأن تخليص الرهن لا يحصل بإيفاء بعض الدين فكان مضطرا ، وباعتبار الاضطرار ثبت له حق الرجوع فكيف يمتنع الرجوع مع بقاء الاضطرار ، وهذا ; لأن غرضه تخليصه لينتفع به ولا يحصل ذلك إلا بأداء الدين كله ; إذ للمرتهن أن يحبسه حتى يستوفي الكل على ما عرف في موضعه انتهى

أقول : في كلامه هذا نوع غرابة ، ; لأن صاحب النهاية قد ذكر حاصل استشكاله بطريق السؤال

وأجاب عنه حيث قال : فإن قيل : هو لا يتوصل إلى تحصيل ملكه إلا بإيفاء جميع الدين فلم يكن متبرعا

قلنا : الضمان إنما وجب على المستعير باعتبار إيفاء الدين من ملكه فكان الرجوع إليه بقدر ما يتحقق به الإيفاء انتهى

وقد تبعه في ذكر هذا السؤال والجواب صاحبا الكفاية ومعراج الدراية ، فإن كان الجواب المذكور مرضيا عند الزيلعي أيضا فلا معنى لاستشكاله كلام صاحب النهاية بعد أن رأى السؤال والجواب مسطورين في النهاية على الاتصال بما استشكله ، وإن لم يكن الجواب المذكور مرضيا عنده كان عليه أن يبين محل فساده ، ولا ينبغي أن يعد السؤال المذكور فيها إشكالا من عند نفسه




الخدمات العلمية