الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 421 ] قال ( ولا يجوز للقاتل عامدا كان أو خاطئا بعد أن كان مباشرا ) لقوله عليه الصلاة والسلام { لا وصية للقاتل } ولأنه استعجل ما أخره الله تعالى فيحرم الوصية كما يحرم الميراث .

وقال الشافعي : [ ص: 422 ] تجوز للقاتل وعلى هذا الخلاف إذا أوصى لرجل ثم إنه قتل الموصي تبطل الوصية عندنا ، وعنده لا تبطل ، والحجة عليه في الفصلين ما بيناه ( ولو أجازتها الورثة جاز عند أبي حنيفة ومحمد ، [ ص: 423 ] وقال أبو يوسف : لا تجوز ) لأن جنايته باقية والامتناع لأجلها .

ولهما أن الامتناع لحق الورثة لأن نفع بطلانها يعود إليهم كنفع بطلان الميراث ، ولأنهم لا يرضونها للقاتل كما لا يرضونها لأحدهم . قال ( ولا تجوز لوارثه ) لقوله عليه الصلاة والسلام { إن الله تعالى أعطى كل ذي حق حقه ، ألا لا وصية لوارث } ولأنه يتأذى البعض بإيثار البعض ففي تجويزه قطيعة الرحم ولأنه حيف بالحديث الذي رويناه ، ويعتبر كونه وارثا أو غير وارث وقت الموت لا وقت الوصية لأنه تمليك مضاف إلى ما بعد الموت ، وحكمه يثبت بعد الموت .

التالي السابق


( قوله ولا تجوز للقاتل عامدا كان أو خاطئا بعد أن كان مباشرا لقوله عليه الصلاة والسلام { لا وصية للقاتل } ) أقول : لقائل أن يقول : إن هذا الحديث مما يعارضه إطلاق قوله تعالى { من بعد وصية يوصى بها أو دين } وعموم قوله صلى الله عليه وسلم { إن الله تعالى تصدق عليكم بثلث أموالكم في آخر أعماركم زيادة لكم في أعمالكم تضعونها حيث شئتم } أو قال { حيث أحببتم } كما مر . ثم إن هذا الحديث من قبيل أخبار الآحاد فلا يصلح أن يكون مقيدا لإطلاق الكتاب قط على ما عرف في أصول الفقه ، وإن صلح أن يكون مخصصا لعموم ذلك الحديث الآخر فإنما يتصور ذلك عند ثبوت تأخر ورود هذا الحديث عن ورود ذلك الحديث وهو ليس بثابت قط ، فإذا لم يعلم التاريخ يحمل على المقارنة فيلزم أن يتعارضا ويتساقطا في حق الوصية للقاتل كما هو مقتضى قاعدة الأصول على ما عرف في محله ، فمن أين يتم الاستدلال بهذا الحديث على عدم جواز الوصية للقاتل ؟ قال في البدائع : قال مالك : تصح الوصية للقاتل ، واحتج بما ذكرنا من الدلائل لجواز الوصية في أول الكتاب من غير فصل بين القاتل وغيره . ثم قال : ولنا ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { لا وصية لقاتل } وهذا نص ، ويروى أنه قال { ليس لقاتل شيء } ذكر شيء نكرة في محل النفي فيعم الميراث والوصية جميعا ، وبه تبين أن القاتل مخصوص من عمومات جواز الوصية انتهى . أقول : ليت شعري من أين تبين أن القاتل مخصوص من عمومات جواز الوصية ، ومن شرط التخصيص أن يكون المخصص متأخرا عن العام في الورود وهو لم يثبت قط ، ولو ثبت تأخر هذا الحديث لم يصلح أن يكون مخصصا لكتاب الله تعالى لكونه خبر الواحد ، ومن الدلائل في أول الكتاب لجواز الوصية من غير فصل بين القاتل وغيره كتاب الله تعالى كما عرفته فكيف يكون القاتل مخصوصا منه .

( قوله ولأنه استعجل ما أخره الله تعالى فيحرم الوصية كما يحرم الميراث ) قال في العناية : ورد بأن حرمان الإرث لا يستلزم بطلان الوصية كما في الرق واختلاف الدين . وأجيب بأن حرمان القاتل عن الميراث بسبب مغايظة الورثة مقاسمة قاتل أبيهم في تركته والموصى له [ ص: 422 ] يشاركه في هذا المعنى فجاز القياس عليه ، والمشابهة بين المقيس والمقيس عليه من كل وجه غير ملتزم انتهى . أقول : لا الرد شيء ولا الجواب . أما الأول فلأن التعليل المذكور في الكتاب لا يدل على قياس الحرمان من الوصية مطلقا على الحرمان من الميراث حتى يرد بأن حرمان الإرث لا يستلزم بطلان الوصية كما في الصورتين المزبورتين ، بل إنما يدل على قياس حرمان القاتل من الوصية على حرمانه من الميراث لعلة الاستعجال بفعل محظور وهو القتل ، ولا شك أن هذه العلة غير متحققة في صورتي الرق واختلاف الدين فلا يجري هذا القياس فيهما . وأما الثاني فلأن كون حرمان القاتل عن الميراث بسبب مغايظة الورثة مقاسمة قاتل مورثهم في تركته ممنوع ، كيف ولو كان الأمر كذلك لجاز أن يرث القاتل عند إجازة سائر الورثة إياه وتركهم المغايظة ، كما جازت الوصية له عند أبي حنيفة ومحمد رحمهما الله إذا أجازها الورثة وليس كذلك كما صرحوا به ، وأيضا لو كان الأمر كذلك لزم أن لا يحرم القاتل عن الميراث إذا لم يكن للمقتول وارث غير القاتل وليس كذلك قطعا .

والحق أن سبب حرمان القاتل عن الميراث صدور جناية عظيمة منه وهي القتل بغير حق ، فإنه يستدعي العقوبة بأبلغ الوجوه ، وقد جعلها الشرع حرمانه عن الميراث ، والقاتل الموصى له يشاركه في هذا المعنى ، فجاز قياس حرمانه عن الوصية على حرمانه عن الميراث وإليه أشار المصنف بقوله ولأنه استعجل ما أخره الله تعالى : يعني استعجله بارتكاب جناية عظيمة فيحرم الوصية كما يحرم الميراث ، وقد صرح به صاحب البدائع حيث قال : ولأن القتل بغير حق جناية عظيمة فيستدعي الزجر بأبلغ الوجوه . وحرمان الوصية يصلح زاجرا كحرمان الميراث فيثبت انتهى . ثم قال صاحب العناية : ولعل التفصي عن عهدة كونه قياسا على طريقتنا عسر جدا وسلوك طريق الدلالة أسهل انتهى .

أقول : فيه بحث ، لأن من شرط طريق الدلالة أن يكون المعنى الذي كان الحكم لأجله في المنطوق متحققا في الملحق بالدلالة بطريق الأولوية أو التساوي ، وتحقق ذلك فيما نحن فيه بطريق المذكور ممنوع على أصل أبي حنيفة ومحمد ، فإن المعنى المقتضى لحرمان القاتل عن الميراث لا يتغير ولا يتكسر بإجازة الورثة أصلا ولهذا لا يرث القاتل سواء أجازه الورثة أو لم تجزه بخلاف المعنى المقتضى لحرمانه عن الوصية فإنه يتغير ويتكسر بإجازة الورثة عند أبي حنيفة ومحمد ولهذا تصح الوصية له عندهما إذا أجازتها الورثة كما ستطلع عليه عن قريب فكان ذلك المعنى في حق الميراث أقوى منه في حق الوصية عندهما فلم يوجد شرط طريق الدلالة في شأن الوصية على أصلهما ثم أقول : هاهنا احتمال آخر وهو أن لا يكون مراد المصنف بقوله " كما يحرم الميراث " القياس الفقهي ولا الإلحاق بطريق الدلالة بل كان مراده به مجرد التنظير والتشبيه ، [ ص: 423 ] ويدل عليه أنه لو لم يذكر قوله كما يحرم الميراث لتم دليله العقلي بلا احتياج إليه فإن استعجال القاتل ما أخره الله تعالى جرم عظيم يستدعي حرمانه عن الوصية مع قطع النظر عن استدعائه حرمانه عن الميراث وعلى هذا المعنى لا يتوهم الرد المذكور أصلا وتسقط الكلمات المتعلقة به بحذافيرها كما لا يخفى .

( قوله ولهما أن الامتناع لحق الورثة لأن نفع بطلانها يعود إليهم كنفع بطلان الميراث ) أقول : أرى دليلهما هذا ضعيفا جدا ، فإن قوله إن الامتناع لحق الورثة ليس بظاهر على الإطلاق ، إذ قد تقرر فيما مر أن الشرع لم يعتبر تعلق حقهم بقدر الثلث ولهذا جازت الوصية بهذا القدر للأجانب وإن لم يجزها الورثة ، وفيما نحن فيه لم تجز الوصية بشيء للقاتل بدون إجازة الورثة فكيف يتصور أن يكون الامتناع في قدر الثلث أيضا لحقهم . ثم إن تعليل ذلك بقوله لأن نفع بطلانها يعود إليهم كنفع بطلان الميراث ليس بتام ، لأن مجرد عود نفع بطلانها إليهم لو اقتضى كون الامتناع في الوصية لحقهم لاقتضى كونه في الإرث أيضا لحقهم ، فلزم أن يجوز إرث القاتل أيضا بإجازتهم عندهما ولم يقل به أحد . قال في العناية : فإن قيل : ما الفرق بينها وبين الميراث إذا أجازت الورثة حيث صحت في الوصية دون الميراث . أجيب بأن الإجازة تصرف من العبد فتعمل فيما كان من جهة العبد والوصية من جهة العبد فتعمل فيه ، بخلاف الميراث فإنه من جهة الشرع لا صنع للعبد فيه فلا يعمل فيه تصرف العبد انتهى .

أقول : فيه نظر ، لأن الكلام هنا ليس في نفس الوصية والميراث حتى يتم الفرق بينهما بأن أحدهما من جهة العبد والآخر من جهة الشرع ، بل إنما الكلام هنا في أن حرمان القاتل عن الوصية كحرمانه عن الميراث أو لا ، ولا شك أنه لا فرق بين حرمانه عن الوصية وحرمانه عن الميراث في كونهما من جهة الشرع نظرا إلى دليلهما ، وفي كونها من جهة العبد نظرا إلى صدور سببهما وهو القتل عن العبد ، فما معنى أن تعمل الإجازة التي هي تصرف من العبد في ارتفاع أحدهما دون الآخر ، وبعبارة أخرى إن الميراث وإن كان من جهة الشرع بدون صنع العبد إلا أن حرمان القاتل عنه كان من جهة العبد حيث باشر القتل ، فكان فعله هذا مانعا عن ميراثه من المقتول فلم لا تجوز أن تعمل الإجازة في رفع هذا المانع الذي كان من جهته وبصنعه .

( قوله ولأنه حيف بالحديث الذي رويناه ) قال صاحب العناية : قوله بالحديث الذي رويناه إشارة إلى ما تقدم في كتاب الهبة فيمن خصص بعض أولاده في العطية انتهى . أقول : هذا خبط ظاهر من الشارح المزبور إذ لم يتقدم من المصنف في كتاب الهبة ذكر حديث في حق من خصص بعض أولاده في العطية ، بل لم يتقدم منه ثمة ذكر تلك المسألة قط فكيف تتصور الحوالة عليه بها هاهنا .

والصواب أن مراد المصنف هنا بقوله بالحديث الذي رويناه هو الإشارة إلى ما ذكره في هذا الكتاب فيما مضى عن قريب بقوله وقد جاء في الحديث { الحيف في الوصية من أكبر الكبائر } وفسروه بالزيادة [ ص: 424 ] على الثلث وبالوصية للوارث انتهى .




الخدمات العلمية