الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  233 (وقال الزهري : لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم أو ريح أو لون ).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  الزهري هو محمد بن مسلم بن شهاب الفقيه المدني نزيل الشام، ثم الكلام فيه على أنواع، الأول أن هذا تعليق من البخاري، ولكنه موصول عن عبد الله بن وهب في مسنده، حدثنا يونس عن ابن شهاب أنه قال: كل ما فضل مما يصيبه من الأذى حتى لا يغير ذلك طعمه، ولا لونه، ولا ريحه، فلا بأس أن يتوضأ به، وورد في هذا المعنى حديث عن أبي أمامة الباهلي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن الماء لا ينجسه شيء إلا ما غلب على ريحه، وطعمه، ولونه ، رواه ابن ماجه، حدثنا محمود بن خالد، والعباس بن الوليد الدمشقيان، قال: حدثنا مروان بن محمد، حدثنا رشدين، أخبرنا معاوية بن صالح، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة رضي الله عنه، وقال الدارقطني : إنما يصح هذا من قول راشد بن سعد، ولم يرفعه غير رشدين، قلت: وفيه نظر؛ لأن أبا أحمد بن عدي رواه في (الكامل) من طريق أحمد بن عمر، عن حفص بن عمر، حدثنا ثور بن يزيد، عن راشد بن سعد، عن أبي أمامة، فرفعه، وقال: لم يروه عن ثور إلا حفص، قلت: وفيه نظر أيضا؛ لأن البيهقي رواه من حديث أبي الوليد، عن الساماني، عن عطية بن بقية بن الوليد، عن أبيه، عن ثور، وقال البيهقي : والحديث غير قوي إلا أنا لا نعلم في نجاسة الماء إذا تغير بالنجاسة خلافا.

                                                                                                                                                                                  النوع الثاني في معناه: قوله: " لا بأس " أي: لا حرج في استعمال ماء مطلقا ما لم يغيره طعم، أو ريح، أو لون، وقوله: " لم يغيره " جملة من الفعل والمفعول، وقوله: " طعم " بالرفع فاعله، وحاصل المعنى: كل ماء طاهر في نفسه، ولا يتنجس بإصابة الأذى، أي: النجاسة إلا إذا تغير أحد الأشياء الثلاثة منه؛ وهي الطعم، والريح، واللون، فإن قلت: الطعم، أو الريح، أو اللون هو المغير بفتح الياء آخر الحروف المشددة لا المغير على صيغة الفاعل، والمغير بالكسر هو الشيء النجس الذي يخالطه، فكيف يجعل الطعم، أو الريح، أو اللون مغيرا على صيغة الفاعل على ما وقع في رواية البخاري؟ وأما الذي في عبارة عبد الله بن وهب، فهو على الأصل، قلت: المغير في الحقيقة هو الماء، ولكن تغييره لما كان لم يعلم إلا من جهة الطعم، أو الريح، أو اللون، فكأنه صار هو المغير، وهو من قبيل ذكر السبب، وإرادة المسبب، وقال الكرماني : لا بأس أي لا يتنجس الماء بوصول النجس إليه قليلا، أو كثيرا، بل لا بد من تغير أحد الأوصاف الثلاثة في تنجسه، والمراد من لفظ: "ما لم يغيره طعمه": ما لم يتغير طعمه، فنقول: لا يخلو إما أن يراد بالطعم المذكور في لفظ الزهري طعم الماء، أو طعم الشيء المنجس، فعلى الأول معناه: ما لم يغير الماء عن حاله التي خلق عليها طعمه، وتغيره طعمه لا بد أن يكون بشيء نجس إذ البحث فيه، وعلى الثاني معناه: ما لم يغير الماء طعم النجس، ويلزم منه تغير طعم الماء؛ إذ لا شك أن الطعم هو المغير للطعم، واللون للون، والريح للريح، إذ الغالب أن الشيء يؤثر في الملاقي بالنسبة، وجعل الشيء متصفا بوصف نفسه، ولهذا يقال: لا يسخن إلا الحار، ولا يبرد إلا البارد، فكأنه قال: ما لم يغير طعم الماء طعم الملاقي النجس، أو لا بأس، معناه: لا يزول طهوريته ما لم يغيره طعم من الطعوم الطاهرة، أو النجسة، نعم، إن كان المغير طعما نجسا ينجسه، وإن كان طاهرا يزيل طهوريته لا طهارته، ففي الجملة في اللفظ تعقيد، انتهى.

                                                                                                                                                                                  قلت: تفسيره هكذا هو عين التعقيد؛ لأنه فسر قوله: "لا بأس " بمعنيين؛ أحدهما بقوله: "أي لا يتنجس" إلى آخره، والآخر بقوله: "لا يزول طهوريته"، وكلا المعنيين لا يساعدهما اللفظ، بل هو خارج عنه، وقوله: "المغير للطعم هو الطعم" غير سديد؛ [ ص: 159 ] لأن المغير للطعم غير الطعم، وهو الشيء الملاقي له، وكذلك اللون، والريح، وكذلك قوله: "والمراد" من لفظ ما لم يغيره طعمه ما لم يتغير طعمه غير موجه؛ لأنه تفسير للفعل المتعدي بالفعل اللازم من غير وجه، وكذلك ترديده بقوله: لا يخلو إما أن يراد بالطعم المذكور إلى آخره غير موجه؛ لأن الضمير المنصوب في "لم يغيره" يرجع إلى الماء، فيكون المعنى على هذا: لا بأس بالماء ما لم يغيره طعم الماء، وطعم الماء ذاتي، فكيف يغير ذات الماء؟ وإنما يغيره طعم الشيء الملاقي، والفرق بين الطعمين ظاهر.

                                                                                                                                                                                  (النوع الثالث في استنباط الحكم منه) استنبط منه أن مذهب الزهري في الماء الذي يخالطه شيء نجس الاعتبار بتغيره بذلك من غير فرق بين القليل والكثير، وهو مذهب جماعة من العلماء، وشنع أبو عبيد في (كتاب الطهور) على من ذهب إلى هذا بأنه يلزم منه أن من بال في إبريق، ولم يغير للماء وصفا أنه يجوز له التطهر به، وهو مستشنع، قال بعضهم: ولهذا نصر قول التفريق بالقلتين، قلت: كيف ينصر هذا بحديث القلتين؟ وقد قال ابن العربي : مداره على علته، أو مضطرب في الرواية، أو موقوف، وحسبك أن الشافعي رواه عن الوليد بن كثير، وهو إباضي، واختلفت روايته، فقيل: قلتين، وقيل: قلتين، أو ثلاثا، وروي أربعون قلة، وروي أربعون فرقا، ووقف على أبي هريرة، وعبيد الله بن عمرو، قال اليعمري : حكم ابن منده بصحته على شرط مسلم من جهة الرواة، ولكنه أعرض عن جهة الرواية بكثرة الاختلاف فيها، والاضطراب، ولعل مسلما تركه لذلك، قلت: وكذلك لم يخرجه البخاري لاختلاف وقع في إسناده، وقال أبو عمر في (التمهيد): ما ذهب إليه الشافعي من حديث القلتين مذهب ضعيف من جهة النظر، غير ثابت في الأثر؛ لأنه قد تكلم فيه جماعة من أهل العلم بالنقل، وقال الدبوسي في كتاب (الأسرار): هو خبر ضعيف، ومنهم من لم يقبله؛ لأن الصحابة والتابعين لم يعملوا به، وقال ابن بطال : ومذهب الزهري هو قول الحسن، والنخعي، والأوزاعي، ومذهب أهل المدينة، وهي رواية أبي مصعب، عن مالك، وروى عنه ابن القاسم أن قليل الماء ينجس بقليل النجاسة، وإن لم يظهر فيه، وهو قول الشافعي، وروي هذا المعنى عن عبد الله بن عباس، وابن مسعود، وسعيد بن المسيب على اختلاف عنه، وسعيد بن جبير، وهو قول الليث، وابن صالح بن حي، وداود بن علي، ومن تبعه، وهو مذهب أهل البصرة، وقد قال بعض أصحابنا: هو الصحيح في النظر، وثابت بالأثر؛ من ذلك صب الماء على بول الأعرابي، وحديث بئر بضاعة، وحديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما: " الماء لا ينجسه شيء "، ومذهب أصحابنا الماء إما جار أو راكد، قليل أو كثير؛ فالجاري إذا وقعت فيه النجاسة، وكانت غير مرئية كالبول، والخمر، ونحوهما، فإنه لا ينجس ما لم يتغير لونه، أو طعمه، أو ريحه، وإن كانت مرئية كالجيفة، ونحوها، فإنه لا ينجس، فإن كان يجري عليها جميع الماء لا يجوز التوضؤ به من أسفلها، وإن كان يجري أكثرها عليها، فكذلك اعتبارا للغالب، وإن كان أقله يجري عليها يجوز التوضؤ به من أسفلها، وإن كان يجري عليها النصف دون النصف، فالقياس جواز التوضؤ، وفي الاستحسان لا يجوز احتياطا، والراكد اختلفوا فيه؛ فقالت الظاهرية : لا ينجس أصلا، وقالت عامة العلماء: إن كان الماء قليلا ينجس، وإن كثيرا لا ينجس لكنهم اختلفوا في الحد الفاصل بينهما، فعندنا بالخلوص، فإن كان يخلص بعضه إلى بعض، فهو قليل، وإلا فهو كثير، واختلف أصحابنا في تفسير الخلوص بعد أن اتفقوا أنه يعتبر الخلوص بالتحريك، وهو أن يكون بحال لو حرك طرف منه يتحرك الطرف الآخر، فهو مما يخلص، وإلا فهو مما لا يخلص، واختلفوا في جهة التحريك، فعن أبي يوسف، عن أبي حنيفة أنه يعتبر التحريك بالاغتسال من غير عنف، وعن محمد أنه يعتبر بالوضوء، وروي أنه باليد من غير اغتسال ولا وضوء، وأما اعتبارهم في تفسير الخلوص، فعن أبي حفص الكبير أنه اعتبره بالصبغ، وعن أبي نصر محمد بن سلام أنه اعتبره بالتكدير، وعن أبي سليمان الجوزجاني أنه اعتبره بالمساحة؛ فقال: إن كان عشرا في عشر، فهو مما لا يخلص، وإن كان دونه، فهو مما يخلص، وعن ابن المبارك أنه اعتبره بالعشرة أولا، ثم بخمسة عشر، وإليه ذهب أبو مطيع البلخي، فقال: إن كان خمسة عشر في خمسة عشر أرجو أن يجوز، وإن كان عشرين في عشرين لا أجد في قلبي شيئا، وعن محمد أنه قدره بمسجده، وكان ثمانيا في ثمان، وبه أخذ محمد بن سلمة، وقيل: كان مسجده عشرا في عشر، وقيل: كان داخله ثمانيا في ثمان، وخارجه عشرا في عشر، وعن الكرخي : لا عبرة للتقدير، وإنما المعتبر هو التحري، فلو كان أكثر رأيه أن النجاسة خلصت إلى الموضع [ ص: 160 ] الذي يتوضأ منه لا يجوز، وإن كان أكثر رأيه أنها لم تصل إليه يجوز، وقد استقصينا الكلام فيه في (شرحنا لمعاني الآثار) للطحاوي رحمه الله تعالى.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية