الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  239 ( وقال عطاء : التيمم أحب إلي من الوضوء بالنبيذ واللبن ).

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  عطاء هو ابن أبي رباح، وهذا يدل على أن عطاء يجيز استعمال النبيذ في الوضوء، ولكن التيمم أحب إليه منه، فعلى هذا هو أيضا لا يساعد الترجمة، وروى أبو داود من طريق ابن جريج عن عطاء أنه كره الوضوء بالنبيذ واللبن، وقال: إن التيمم أعجب إلي منه، قلت: أما التوضؤ باللبن فلا يخلو إما أن يكون بنفس اللبن، أو بماء خالطه لبن، فالأول لا يجوز بالإجماع، وأما الثاني: فيجوز عندنا خلافا للشافعي، وأما الوضوء بالنبيذ فهو جائز عند أبي حنيفة، ولكن بشرط أن يكون حلوا رقيقا يسيل على الأعضاء، كالماء، وما اشتد منها صار حراما لا يجوز التوضؤ به، وإن غيرته النار، فما دام حلوا فهو على الخلاف، ولا يجوز التوضؤ بما سواه من الأنبذة جريا على قضية القياس، وقال ابن بطال : اختلفوا في الوضوء بالنبيذ، فقال مالك، والشافعي، وأحمد : لا يجوز الوضوء بنيه ومطبوخه مع عدم الماء ووجوده تمرا كان أو غيره، فإن كان مع ذلك مشتدا فهو نجس لا يجوز شربه ولا الوضوء به، وقال أبو حنيفة : لا يجوز الوضوء به مع وجود الماء، فإذا عدم فيجوز بمطبوخ التمر خاصة، وقال الحسن : جاز الوضوء بالنبيذ، وقال الأوزاعي : جاز بسائر الأنبذة، انتهى.

                                                                                                                                                                                  وفي (المغني) لابن قدامة، وروي عن علي رضي الله تعالى عنه، أنه كان لا يرى بأسا بالوضوء بنبيذ التمر، وبه قال الحسن، والأوزاعي، وقال عكرمة : النبيذ وضوء من لم يجد الماء، وقال إسحاق : النبيذ الحلو أحب إلي من التيمم، وجمعهما أحب إلي، وعن أبي حنيفة كقول عكرمة، وقيل عنه: يجوز الوضوء بنبيذ التمر إذا طبخ، واشتد عند عدم الماء في السفر لحديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه، وفي (أحكام القرآن) لأبي بكر الرازي، عن أبي حنيفة في ذلك ثلاث روايات، إحداها: يتوضأ به، ويشترط فيه النية، ولا يتيمم، وهذه هي المشهورة، وقال قاضيخان : هو قوله الأول، وبه قال زفر . والثانية: يتيمم ولا يتوضأ، رواها عنه نوح بن أبي مريم، وأسد بن عمرو، والحسن بن زياد، قال قاضيخان : وهو الصحيح عنه، والذي رجع إليها، وبها قال أبو يوسف، وأكثر العلماء، واختار الطحاوي هذا. والثالثة روي عنه الجمع بينهما، وهذا قول محمد، وقال صاحب (المحيط): صفة هذا النبيذ أن يلقى في الماء تميرات حتى يأخذ الماء حلاوتها، ولا يشتد، ولا يسكر، فإن اشتد حرم شربه، فكيف الوضوء؟ وإن كان مطبوخا فالصحيح أنه لا يتوضأ به، وقال في (المفيد): إذا ألقي فيه تمرات فحلا، ولم يزل عنه اسم الماء، وهو رقيق، فيجوز الوضوء به بلا خلاف بين أصحابنا، ولا يجوز الاغتسال به، هذا خلاف ما قاله في (المبسوط) أنه يجوز الاغتسال به، وقال الكرخي : المطبوخ أدنى طبخة يجوز الوضوء به إلا عند محمد، وقال الدباس : لا يجوز، وفي [ ص: 180 ] البدائع: واختلف المشايخ في جواز الاغتسال بنبيذ التمر على أصل أبي حنيفة، فقال بعضهم: لا يجوز؛ لأن الجواز عرف بالنص، وأنه ورد بالوضوء دون الاغتسال، فيقتصر على مورد النص، وقال بعضهم: يجوز لاستوائهما في المعنى، ثم لا بد من تفسير نبيذ التمر الذي فيه الخلاف، وهو أن يلقى في الماء شيء من التمر لتخرج حلاوتها إلى الماء، وهكذا ذكر ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في تفسير النبيذ الذي توضأ به النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: تمرات ألقيتها في الماء؛ لأن من عادة العرب أنها تطرح التمر في الماء ليحلو، فما دام رقيقا حلوا، أو قارصا يتوضأ به عند أبي حنيفة، وإن كان غليظا كالرب لا يجوز التوضؤ به، وكذا إذا كان رقيقا لكنه غلا، واشتد، وقذف بالزبد؛ لأنه صار مسكرا، والمسكر حرام، فلا يجوز التوضؤ به؛ لأن النبيذ الذي توضأ به رسول الله صلى الله عليه وسلم كان رقيقا حلوا، فلا يلحق به الغليظ، والنبيذ إذا كان نيا، أو كان مطبوخا أدنى طبخة، فما دام قارصا أو حلوا، فهو على الخلاف، وإن غلا، واشتد، وقذف بالزبد فلا، وذكر القدوري في شرحه مختصر الكرخي الاختلاف فيه بين الكرخي وأبي طاهر الدباس على قول الكرخي : يجوز، وعلى قول أبي طاهر : لا يجوز، ثم الذين جوزوا التوضؤ به احتجوا بحديث ابن مسعود ؛ حيث قال له النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن: " ماذا في إداوتك؟ قال: نبيذ، قال: تمرة طيبة وماء طهور "، رواه أبو داود، والترمذي، وزاد: " فتوضأ به وصلى الفجر "، وقال بعضهم: وهذا الحديث أطبق علماء السلف على تضعيفه، قلت: إنما ضعفوه؛ لأن في رواته أبا زيد، وهو رجل مجهول لا يعرف له رواية غير هذا الحديث، قاله الترمذي ، وقال ابن العربي في شرح الترمذي : أبو زيد مولى عمرو بن حريث روى عنه راشد بن كيسان، وأبو روق، وهذا يخرجه عن حد الجهالة، وأما اسمه فلم يعرف فيجوز أن يكون الترمذي أراد أنه مجهول الاسم، على أنه روى هذا الحديث أربعة عشر رجلا عن ابن مسعود كما رواه أبو زيد؛ الأول: أبو رافع عند الطحاوي، والحاكم . الثاني: رباح أبو علي عند الطبراني في الأوسط. الثالث: عبد الله بن عمر عند أبي موسى الأصبهاني في كتاب الصحابة. الرابع: عمرو البكالي عند أبي أحمد في الكنى بسند صحيح. الخامس: أبو عبيدة بن عبد الله . السادس: أبو الأحوص، وحديثهما عند محمد بن عيسى المدائني، فإن قلت: قال البيهقي : محمد بن عيسى المدائني واهي الحديث، والحديث باطل، قلت: قال البرقاني فيه: ثقة لا بأس به، وقال اللالكائي : صالح ليس يدفع عن السماع. السابع: عبد الله بن مسلمة عند الحافظ أبي الحسن بن المظفر في كتاب غرائب شعبة . الثامن: قابوس بن ظبيان عن أبيه عند ابن المظفر أيضا بسند لا بأس به. التاسع: عبد الله بن عمرو بن غيلان الثقفي عند الإسماعيلي في جمعه حديث يحيى بن أبي كثير، عن يحيى عنه. العاشر: عبد الله بن عباس عند ابن ماجه والطحاوي . الحادي عشر: أبو وائل شقيق بن سلمة عند الدارقطني . الثاني عشر: ابن عبد الله، رواه أبو عبيدة بن عبد الله، عن طلحة بن عبد الله، عن أبيه أن أباه حدثه. الثالث عشر: أبو عثمان بن سنة عند أبي حفص بن شاهين في كتاب الناسخ والمنسوخ من طريق جيدة، وخرجها الحاكم في مستدركه. الرابع عشر: أبو عثمان النهدي عند الدورقي في مسنده بطريق لا بأس بها، فإن قلت: صح عن عبد الله أنه قال: لم أكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الجن، قلت: يجوز أن يكون صحبه في بعض الليل، واستوقفه في الباقي، ثم عاد إليه، فصح أنه لم يكن معه عند الجن لا نفس الخروج، وقد قيل: إن ليلة الجن كانت مرتين، ففي أول مرة خرج إليهم لم يكن مع النبي صلى الله عليه وسلم ابن مسعود، ولا غيره كما هو ظاهر حديث مسلم، ثم بعد ذلك خرج إليهم، وهو معه ليلة أخرى كما روى أبو حاتم في تفسيره في أول سورة الجن من حديث ابن جريج، قال: قال ابن عبد العزيز بن عمر : أما الجن الذين لقوه بنخلة، فجن نينوى، وأما الجن الذي لقوه بمكة فجن نصيبين، وقال بعضهم: على تقدير صحته -أي صحة حديث ابن مسعود - إنه منسوخ؛ لأن ذلك كان بمكة، ونزول قوله تعالى: فلم تجدوا ماء فتيمموا إنما كان بالمدينة بلا خلاف، قلت: هذا القائل نقل هذا عن ابن القصار من المالكية، وابن حزم من كبار الظاهرية، والعجب منه أنه مع علمه أن هذا مردود نقل هذا، وسكت عليه، وجه الرد ما ذكره الطبراني في الكبير، والدارقطني أن جبريل عليه السلام نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم بأعلى مكة، فهمز له بعقبه، فأنبع الماء، وعلمه الوضوء، وقال السهيلي : الوضوء مكي، ولكنه مدني التلاوة، وإنما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها: آية التيمم، ولم تقل: آية الوضوء؛ لأن الوضوء كان مفروضا قبل، غير أنه لم يكن قرآنا يتلى حتى نزلت آية التيمم، وحكى عياض عن أبي الجهم أن الوضوء كان سنة حتى نزل فيه القرآن بالمدينة .




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية