الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                  170 37 - حدثنا عبد الله بن يوسف ، عن مالك ، عن أبي الزناد ، عن الأعرج ، عن أبي هريرة ، قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: إذا شرب الكلب في إناء أحدكم فليغسله سبعا.

                                                                                                                                                                                  التالي السابق


                                                                                                                                                                                  لما ذكر البخاري في هذا الباب حكمين ثانيهما في سؤر الكلب أتى بدليل من الحديث المرفوع، وهو أيضا مطابق للترجمة.

                                                                                                                                                                                  ( بيان رجاله ) وهم خمسة كلهم ذكروا غير مرة، ومالك هو ابن أنس، وأبو زناد بكسر الزاي المعجمة بعدها النون واسمه عبد الله بن ذكوان، والأعرج اسمه عبد الرحمن بن هرمز.

                                                                                                                                                                                  ( بيان لطائف إسناده ) منها أن فيه التحديث والإخبار والعنعنة، ومنها أن رواته كلهم أئمة أجلاء، ومنها أن رواته ما بين تنيسي ومدني .

                                                                                                                                                                                  ( بيان تعدد موضعه ومن أخرجه غيره ) أخرجه البخاري هنا عن عبد الله بن يوسف، وأخرجه مسلم في الطهارة عن يحيى بن يحيى، وأخرجه أبو داود فيه أيضا عن الحارث بن مسكين، عن عبد الرحمن بن القاسم، وأخرجه النسائي فيه أيضا عن قتيبة، وأخرجه ابن ماجه أيضا عن محمد بن يحيى، عن روح بن عبادة خمستهم عن مالك به، وأخرجه مسلم أيضا من حديث الأعمش، عن ابن رزين وأبي صالح، عن أبي هريرة بلفظ: إذا ولغ بدل شرب. ومن حديث [ ص: 39 ] محمد بن سيرين، عن أبي هريرة : طهور إناء أحدكم إذا ولغ فيه الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب، وإذا ولغت فيه الهرة غسله مرة واحدة.

                                                                                                                                                                                  وأخرجه أبو داود في الطهارة عن مسدد، وأخرجه الترمذي فيه عن سوار بن عبد الله العنبري كلاهما عن معتمر بن سليمان به ووقفه مسدد ورفعه سواه، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح، وقال أبو داود : ذكر الهر موقوف، وقال البيهقي : مدرج.

                                                                                                                                                                                  ( بيان المعاني ) قوله: إذا شرب الكلب كذا هو في الموطإ ، والمشهور عن أبي هريرة من رواية جمهور أصحابه عنه "إذا ولغ" وهو المعروف في اللغة. وقال الكرماني : ضمن شرب معنى ولغ فعدي تعديته يقال: ولغ الكلب من شرابنا كما يقال في شرابنا، ويقال: ولغ شرابنا أيضا. قلت: الشارع أفصح الفصحاء، وروي عنه شرب و ولغ لتقاربهما في المعنى ولا حاجة إلى هذا التكلف.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : الشرب أخص من الولوغ فلا يقوم مقامه، قلت: لا نسلم عدم قيام الأخص مقام الأعم; لأن الخاص له دلالة على العام اللازم كلفظ الإنسان له دلالة على مفهوم الحيوان بالتضمن; لأنه جزء مفهومه، وكذا له دلالة على مفهوم الماشي بالقوة بالالتزام; لكونه خارجا عن معنى الإنسان لازما له، فعلى هذا يجوز أن يذكر الشرب ويراد به الولوغ، وادعى ابن عبد البر أن لفظة شرب لم يروه إلا مالك، وأن غيره رواه بلفظ ولغ وليس كذلك، فقد رواه ابن خزيمة وابن المنذر من طريقين عن هشام بن حسان، عن ابن سيرين، عن أبي هريرة بلفظ "إذا شرب" لكن المشهور عن هشام بن حسان بلفظ "إذا ولغ" كذا أخرجه مسلم وغيره من طريق عنه، وقد رواه عن أبي الزناد شيخ مالك بلفظ "إذا شرب" وروي أيضا عن مالك بلفظ "إذا ولغ" أخرجه أبو عبيد في كتاب الطهور له عن إسماعيل بن عمر عنه، ومن طريقه أورده الإسماعيلي، وكذا أخرجه الدارقطني في الموطإ ، له من طريق أبي علي الحنفي.

                                                                                                                                                                                  ( بيان استنباط الأحكام ) الأول فيه دلالة على نجاسة الكلب; لأن الطهارة لا تكون إلا عن حدث أو نجس، والأول منتف فتعين الثاني، فإن قلت : استدل البخاري في هذا الباب المشتمل على الحكمين على الحكم الثاني وهو سؤر الكلب بالأثر الذي رواه عن الزهري والثوري ، ثم استدل بهذا الحديث المرفوع فما وجه دلالة هذا على ما ادعاه، والحال أن الحديث يدل على خلاف ما يقوله؟ قلت: أجاب عنه من ينصره ويتغالى فيه بأن سؤر الكلب طاهر وأن الأمر بغسل الإناء سبعا من ولوغه أمر تعبدي فلا يدل على نجاسته، قلت: هذا بعيد جدا لأن دلالة ظاهر الحديث على خلاف ما ذكروه على أنا ولئن سلمنا أنه يحتمل أن يكون الأمر لنجاسته، ويحتمل أن يكون للتعبد، ولكن رجح الأول ما رواه مسلم "طهور إناء أحدكم إذا ولغ الكلب أن يغسله سبع مرات أولاهن بالتراب" وروايته أيضا "إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليرقه ، ثم ليغسله سبع مرات" ولو كان سؤره طاهرا لما أمر بإراقته والذي قالوه نصرة للبخاري بغير ما يذكر عن المالكية.

                                                                                                                                                                                  فإن قلت : من قال إن البخاري ذهب إلى ما نسبوه له؟ قلت: قال ابن بطال في شرحه: ذكر البخاري أربعة أحاديث في الكلب، وغرضه من ذلك إثبات طهارة الكلب وطهارة سؤره. أقول: كلام ابن بطال ليس بحجة فلم لا يجوز أن يكون غرضه بيان مذاهب الناس فبين في هذا الباب مسألتين أولاهما الماء الذي يغسل به الشعر والثانية سؤر الكلاب بل الظاهر هذا، والدليل عليه أنه قال في المسألة الثانية وسؤر الكلاب، واقتصر على هذه اللفظة ولم يقل وطهارة سؤر الكلاب.

                                                                                                                                                                                  الثاني: فيه نجاسة الإناء، ولا فرق بين الكلب المأذون في اقتنائه وغيره، ولا بين الكلب البدوي والحضري لعموم اللفظ. وللمالكية فيه أربعة أقوال: طهارته ونجاسته وطهارة سؤر المأذون في اتخاذه دون غيره، والفرق بين الحضري والبدوي.

                                                                                                                                                                                  وقال الرافعي في شرحه الكبير ، وعند مالك لا يغسل في غير الولوغ; لأن الكلب طاهر عنده والغسل من الولوغ تعبدي، وقال الخطابي : إذا ثبت أن لسانه الذي يتناول به الماء نجس علم أن سائر أجزائه في النجاسة بمثابة لسانه، فأي جزء من بدنه مسه وجب تطهيره.

                                                                                                                                                                                  الثالث فيه دليل على أن الماء النجس يجب تطهير الإناء منه.

                                                                                                                                                                                  الرابع: قال الكرماني : فيه دليل على تحريم بيع الكلب إذ كان نجس الذات فصارت كسائر النجاسات قلت: يجوز بيعه عند أصحابنا; لأنه منتفع به حراسة واصطيادا قال الله تعالى: وما علمتم من الجوارح مكلبين [ ص: 40 ] فإن قلت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ثمن الكلب ومهر البغي وحلوان الكاهن، قلت: هذا كان في زمن كان النبي عليه الصلاة والسلام أمر فيه بقتل الكلاب، وكان الانتفاع بها يومئذ محرما ، ثم بعد ذلك رخص في الانتفاع بها، وروى الطحاوي عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جده، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه قضى في كلب صيد قتله رجل بأربعين درهما، وقضى في كلب ماشية بكبش.

                                                                                                                                                                                  وعنه عن عطاء: لا بأس بثمن الكلب فهذا قول عطاء رضي الله عنه، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن ثمن الكلب من السحت، وعنه عن ابن شهاب أنه إذا قتل الكلب المعلم فإنه تقوم قيمته فيغرمه الذي قتله، فهذا الزهري يقول هذا، وقد روي عن أبي بكر بن عبد الرحمن أن ثمن الكلب من السحت، وعنه عن مغيرة، عن إبراهيم قال: لا بأس بثمن كلب الصيد. وروي عن مالك إجازة بيع كلب الصيد والزرع والماشية، ولا خلاف عنه أن من قتل كلب صيد أو ماشية فإنه يجب عليه قيمته، وعن عثمان رضي الله عنه أنه أجاز الكلب الضاري في المهر، وجعل على قاتله عشرين من الإبل ذكره أبو عمر في التمهيد .

                                                                                                                                                                                  الخامس استدلت به الشافعية على وجوب غسل الإناء الذي ولغ فيه الكلب سبع مرات، ولا فرق عندهم بين ولوغه وغيره، وبين بوله وروثه ودمه وعرقه ونحو ذلك، ولو ولغ كلاب أو كلب واحد مرات في إناء فيه ثلاثة أوجه الصحيح يكفي للجميع سبع مرات.

                                                                                                                                                                                  والثاني أنه يجب لكل واحد سبع.

                                                                                                                                                                                  والثالث أنه يكفي لولغات الكلب الواحد سبع، ويجب لكل كلب سبع ولو وقعت نجاسة أخرى فيما ولغ فيه كفى عن الجميع سبع، ولو كانت نجاسة الكلب دمه فلم تزل عينه إلا بست غسلات مثلا، فهل يحسب ذلك ست غسلات أم غسلة واحدة أم لا يحسب من السبع أصلا فيه أيضا ثلاثة أوجه أصحها واحدة.

                                                                                                                                                                                  قال الكرماني : فإن قلت : ظاهر لفظ الحديث يدل على أنه لو كان الماء الذي في الإناء قلتين ولم تتغير أوصافه لكثرته كان الولوغ فيه منجسا أيضا، لكن الفقهاء لم يقولوا به، قلت: لا نسلم أن ظاهره دل عليه إذ الغالب في أوانيهم أنها ما كانت تسع القلتين فبلفظ الإناء خرج عنه قلتان وما فوقه، قلت: إذا كان الإناء يسع القلتين أو أكثر فماذا يكون حكمه والإناء لا يطلق إلا على ما لا يسع فيه إلا ما دون القلتين واللفظ أعم من ذلك.

                                                                                                                                                                                  السادس أنه ورد في هذا الحديث سبعا أي سبع مرات، وفي رواية سبع مرات أولاهن بالتراب وفي رواية أولاهن أو أخراهن وفي رواية سبع مرات السابعة بتراب وفي رواية سبع مرات وعفروه الثامنة بالتراب .

                                                                                                                                                                                  وقال النووي : وأما رواية وعفروه الثامنة بالتراب فمذهبنا ومذهب الجماهير; إذ المراد اغسلوه سبعا واحدة منهن بتراب مع الماء، فكان التراب قائما مقام غسله فسميت ثامنة، وقال بعضهم: خالف ظاهر هذا الحديث المالكية والحنفية، أما المالكية فلم يقولوا بالتتريب أصلا مع إيجابهم السبع على المشهور عندهم، وأجيب عن ذلك بأن التتريب لم يقع في رواية مالك على أن الأمر بالتسبيع عنده للندب لكون الكلب طاهرا عنده، فإن عورض بالرواية التي روي عنه أنه نجس، أجيب بأن قاعدته أن الماء لا ينجس إلا بالتغير فلا يجب التسبيع للنجاسة بل للتعبد، فإن عورض بما رواه مسلم، عن أبي هريرة "طهور إناء أحدكم" أجيب بأن الطهارة تطلق على غير ذلك كما في خذ من أموالهم صدقة تطهرهم و"السواك مطهرة للفم" فإن عورض بأن اللفظ الشرعي إذا دار بين الحقيقة اللغوية والشرعية حملت على الشرعية إلا إذا قام دليل، أجيب بأن ذلك عند عدم الدليل، وهنا يحتمل أن يكون من قبيل قوله عليه الصلاة والسلام: التيمم طهور المسلم .

                                                                                                                                                                                  وبعض المالكية قالوا: الأمر بالغسل من ولوغه في الكلب المنهي عن اتخاذه دون المأذون فيه، فإن عورض بعدم القرينة في ذلك، أجيب بأن الإذن في مواضع جواز الاتخاذ قرينة، وبعضهم قالوا: إن ذلك مخصوص بالكلب الكلب، والحكمة فيه من جهة الطب; لأن الشارع اعتبر السبع في مواضع منها قوله: صبوا علي من سبع قرب ومنها قوله: من تصبح بسبع تمرات فإن عورض بأن الكلب الكلب لا يقرب الماء فكيف يأمر بالغسل من ولوغه ؟ أجيب بأنه لا يقرب بعد استحكام ذلك، أما في ابتدائه فلا يمتنع، فإن عورض بمنع استلزام التخصيص بلا دليل والتعليل بالتنجيس أولى; لأنه في معنى المنصوص، وقد ثبت عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما التصريح بأن الغسل من ولوغ الكلب; لأنه رجس رواه محمد بن نصر المروزي بإسناد صحيح، ولم يصح عن أحد من الصحابة خلافه، أجيب بأنه يحتمل أن يكون هذا الإطلاق مثل إطلاق الرجس على الميسر والأنصاب.

                                                                                                                                                                                  وأما الحنفية فلم يقولوا بوجوب السبع ولا التتريب قلت: لم يقولوا بذلك; لأن أبا هريرة رضي الله تعالى عنه الذي روى السبع روي عنه غسل الإناء مرة من ولوغ [ ص: 41 ] الكلب ثلاثا فعلا وقولا مرفوعا وموقوفا من طريقين: الأول أخرجه الدارقطني بإسناد صحيح من حديث عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: إذا ولغ الكلب في الإناء فأهرقه ، ثم اغسله ثلاث مرات . قال الشيخ تقي الدين في الإمام : هذا إسناد صحيح.

                                                                                                                                                                                  الطريق الثاني أخرجه ابن عدي في الكامل عن الحسين بن علي الكرابيسي قال: حدثنا إسحاق الأزرق، حدثنا عبد الملك، عن عطاء، عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا ولغ الكلب في إناء أحدكم فليهرقه وليغسله ثلاث مرات. ثم أخرجه عن عمر بن شبة أيضا، حدثنا إسحاق الأزرق به موقوفا، ولم يرفعه غير الكرابيسي قلت: قال البيهقي : تفرد به عبد الملك من أصحاب عطاء ، ثم عطاء من أصحاب أبي هريرة والحفاظ الثقات من أصحاب عطاء، وأصحاب أبي هريرة يروونه سبع مرات، وفي ذلك دلالة على خطإ رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة في الثلاث.

                                                                                                                                                                                  وعبد الملك لا يقبل منه ما يخالف الثقات، ولمخالفته أهل الحفظ والثقة في بعض رواياته تركه شعبة بن الحجاج، ولم يحتج به البخاري في صحيحه ، قلت : عبد الملك أخرج له مسلم في صحيحه، وقال أحمد والثوري : هو من الحفاظ. وعن الثوري هو ثقة فقيه متقن، وقال أحمد بن عبد الله: ثقة ثبت في الحديث . ويقال كان الثوري يسميه الميزان، وأما الكرابيسي فقد قال ابن عدي: قال لنا أحمد بن الحسن الكرابيسي يسأل عنه، والكرابيسي له كتب مصنفة، ذكر فيها اختلاف الناس في المسائل، وذكر فيها أخبارا كثيرة، وكان حافظا لها ولم أجد له حديثا منكرا، والذي حمل عليه أحمد بن حنبل فإنما هو من أجل اللفظ بالقرآن فأما في الحديث فلم أر به بأسا وأما الطحاوي فقال بعد أن روى الموقوف عن عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء، عن أبي هريرة : فثبت بذلك نسخ السبع لأن أبا هريرة هو راوي السبع، والراوي إذا عمل بخلاف روايته أو أفتى بخلافها لا يبقى حجة; لأن الصحابي لا يحل له أن يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ويفتي أو يعمل بخلافه; إذ تسقط به عدالته ولا تقبل روايته، وإنا نحسن الظن بأبي هريرة، فدل على نسخ ما رواه وقد عارض هذا القائل بأن الحنفية خالفوا ظاهر هذا الحديث بقوله يحتمل أن يكون أفتى بذلك لاعتقاد ندبية السبع لا وجوبها أو كان نسي ما رواه، ومع الاحتمال لا يثبت النسخ ورد بأن هذا إساءة الظن بأبي هريرة .

                                                                                                                                                                                  والاحتمال الناشئ من غير دليل لا يعتد به، وادعاء الطحاوي النسخ مبرهن بما رواه بإسناده عن ابن سيرين أنه كان إذا حدث عن أبي هريرة، فقيل له عن النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كل حديث أبي هريرة، عن النبي عليه الصلاة والسلام ، ثم قال الطحاوي : ولو وجب العمل برواية السبع ولا يجعل منسوخا لكان ما روي عن عبد الله بن مغفل في ذلك من النبي عليه الصلاة والسلام أولى مما رواه أبو هريرة ; لأنه زاد عليه وعفروه الثامنة بالتراب والزائد أولى من الناقص، وكان ينبغي لهذا المخالف أن يقول: لا يطهر إلا بأن يغسل ثمان مرات الثامنة بالتراب ليأخذ بالحديثين جميعا، فإن ترك حديث ابن مغفل فقد لزمه ما لزمه خصمه في ترك السبع، ومع هذا لم يأخذ بالتعفير الثابت في الصحيح مطلقا قيل: إنه منسوخ.

                                                                                                                                                                                  فإن عارض هذا القائل بما قاله البيهقي بأن أبا هريرة أحفظ من روى في دهره فروايته أولى، أجيب بالمنع بل رواية ابن المغفل أولى لأنه أحد العشرة الذين بعثهم عمر بن الخطاب قال الحسن البصري : إلينا يفقهون الناس وهو من أصحاب الشجرة، وهو أفقه من أبي هريرة، والأخذ بروايته أحوط، ولهذا ذهب إليه الحسن البصري . وحديثه هذا أخرجه ابن منده من طريق شعبة وقال: إسناده مجمع على صحته، ورواه مسلم وأبو داود والنسائي وابن ماجه، وروي عن أبي هريرة "إذا ولغ السنور في الإناء يغسل سبع مرات" ولم يعملوا به فكل جواب لهم عن ذلك فهو جوابنا عما زاد على الثلاث، فإن عارض هذا القائل بأنه ثبت أن أبا هريرة أفتى بالغسل سبعا، ورواية من روى عنه موافقة فتياه لروايته أرجح من رواية من روى عنه مخالفتها من حيث الإسناد ومن حيث النظر.

                                                                                                                                                                                  أما النظر فظاهر وأما الإسناد فالموافقة وردت من رواية حماد بن زيد، عن ابن سيرين عنه وهذا من أصح الأسانيد، وأما المخالفة فمن رواية عبد الملك بن أبي سليمان، عن عطاء عنه وهو دون الأول في القوة بكثير. أجيب بأن قوله: ثبت أن أبا هريرة أفتى بالغسل سبعا يحتاج إلى البيان ومجرد الدعوى لا تسمع، ولئن سلمنا ذلك فقد يحتمل أن يكون فتواه بالسبع قبل ظهور النسخ عنده، فلما ظهر أفتى بالثلاث، وأما دعوى الرجحان فغير صحيحة لا من حيث النظر ولا من حيث قوة الإسناد; لأن رجال كل منهما رجال الصحيح كما بيناه عن قريب، وأما من حيث النظر فإن العذرة أشد في النجاسة من سؤر الكلب [ ص: 42 ] ولم يعتد بالسبع فيكون الولوغ من باب أولى.

                                                                                                                                                                                  وإن عارض هذا القائل بأنه لا يلزم من كونها أشد منه في الاستقذار أن لا تكون أشد منه في تغليظ الحكم. أجيب بمنع عدم الملازمة، فإن تغليظ الحكم في ولوغ الكلب إما تعبدي وإما محمول على من غلب على ظنه أن نجاسة الولوغ لا تزول بأقل منها، وإما أنهم نهوا عن اتخاذه فلم ينتهوا فغلظ عليهم بذلك، وقال بعض أصحابنا: كان الأمر بالسبع عند الأمر بقتل الكلاب، فلما نهى عن قتلها نسخ الأمر بالغسل سبعا، وإن عارض هذا القائل بأن الأمر بالقتل كان في أوائل الهجرة، والأمر بالغسل متأخر جدا لأنه من رواية أبي هريرة وعبد الله بن مغفل، وكان إسلامهما سنة سبع أجيب بأن كون الأمر بقتل الكلاب في أوائل الهجرة يحتاج إلى دليل قطعي، ولئن سلمنا ذلك فكان يمكن أن يكون أبو هريرة قد سمع ذلك من صحابي أنه أخبره أن النبي عليه الصلاة والسلام لما نهى عن قتل الكلاب نسخ الأمر بالغسل سبعا من غير تأخير، فرواه أبو هريرة عن النبي عليه الصلاة والسلام لاعتماده على صدق المروي عنه; لأن الصحابة كلهم عدول وكذلك عبد الله بن المغفل، وقال بعض أصحابنا: عملت الشافعية بحديث أبي هريرة وتركوا العمل بحديث ابن المغفل، وكان يلزمهم العمل بذلك ويوجبوا ثماني غسلات، وعارض هذا القائل بأنه لا يلزم من كون الشافعية لا يقولون بحديث ابن مغفل أن يتركوا العمل بالحديث أصلا ورأسا; لأن اعتذار الشافعية عن ذلك إن كان متجها فذاك وإلا فكل من الفريقين ملوم في ترك العمل به.

                                                                                                                                                                                  وأجيب بأن زيادة الثقة مقبولة ولا سيما من صحابي فقيه وتركها لا وجه له، فالحديثان في نفس الأمر كالواحد، والعمل ببعض الحديث وترك بعضه لا يجوز، واعتذارهم غير متجه لذلك المعنى ولا يلام الحنفية في ذلك لأنهم عملوا بالحديث الناسخ وتركوا العمل بالمنسوخ.

                                                                                                                                                                                  وقال بعض الحنفية: وقع الإجماع على خلافه في العمل. وعارض هذا القائل بأنه ثبت القول بذلك عن الحسن، وبه قال أحمد في رواية. وأجيب بأن مخالفة الأقل لا تمنع انعقاد الإجماع وهو مذهب كثير من الأصوليين، وقالوا عن الشافعي إنه قال: حديث ابن مغفل لم أقف على صحته قلنا: هذا ليس بعذر، وقد وقف جماعة كثيرون على صحته، ولا يلزم من عدم ثبوته عند الشافعي ترك العمل به عند غيره.




                                                                                                                                                                                  الخدمات العلمية