الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
قال: "ورأيت في بعض مكاتبات ابن بطة إلى بعض أصدقائه، وقد ذكر هذين الخبرين، حديث جابر "إذا رأيتم الريح فلا تسبوها"، وحديث أبي هريرة "أجد نفس ربكم" وحكى كلام ابن قتيبة في ذلك، فقال: أنت في نفس من أمرك أي: في سعة، وقوله: [من نفس الرحمن] معناه: أن يفرج بها الكرب، ويذهب بها الجدب. يقال: اللهم نفس عني، أي: فرج عني. وذكر كلاما طويلا.

[ ص: 168 ] ثم قال ابن بطة بعده: ومما يشهد لصحة هذا التأويل، وأن الريح من نفس ربكم، إنما أراد بالنفس الفرج والروح، ما سمعت أبا بكر بن الأنباري يقول: إنما سميت الريح ريحا لأن الغالب عليها في هبوبها المجيء بالروح والراحة، وانقطاع هبوبها [يكسب] الكرب والغم والأذى، فهي مأخوذة من الروح وأصلها روح فصارت الواو ياء لسكونها وانكسار ما قبلها. ثم قال ابن بطة: فهذا ما قاله أهل العلم بتأويل الكتاب والسنة، وكلام العرب في تأويل الريح، ومعنى النفس بها.

وفي كتاب الله تعالى ما دل على أنها بمعنى الفرج من الغم، والنفس من الكرب، إذ الغم والضيق [يكونان بركودها] [ ص: 169 ] [كما يدل عليه] قوله عز وجل: حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها [يونس: 22]، وقوله: وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته [الأعراف: 57] وقوله: إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد على ظهره [الشورى: 33]".

قال القاضي أبو يعلى: "وفي معنى ذلك حديث رواه ابن فورك ولم يقع لي طريقه، أنه قال: "هذا نفس ربي أجده بين كتفي أتتكم الساعة" معناه: هذا فرج الله عني، صرف به همومي وغمومي، وكشف عن قلبي، وسرى عن فؤادي، ما كان يجده صلى الله عليه وسلم في مستقبل أوقاته من زوائد [ ص: 170 ] روح اليقين والألطاف، فسمى ذلك نفس الرب، لأنه هو الذي نفس به عنه، والإضافة على طريق الملك. والموجب لحمله على ذلك ما تقدم من الخبر الأول، وقد بينا أن فيه ما دل عليه".

قلت: فهذا كلام القاضي وما ذكره فيه من كلام غيره، وقد بين أنه إنما تأول هذا الخبر، لأن في الخبر نفسه ما دل على صحة التأويل، ومثل هذا لا نزاع فيه، فإنه إذا كان في الحديث الواحد متصلا به ما يبين معناه فذلك مثل التخصيص المتصل، ومثل هذا لا يقال فيه إنه خلاف الظاهر، بل ذلك هو الظاهر بلا نزاع بين الناس.

ولهذا يقبل مثل ذلك في الإقرار، والطلاق، والعتاق، والنذر، واليمين، وغير ذلك من المواضع التي ليس له أن يرفع الظاهر بعد تمام (الكلام، وله أن يصل بالكلام من [ ص: 171 ] الاستثناء والشرط والعطف والصفات والأحوال)، وغير ذلك مما يقيد أوله ويخصه ويصرفه عن موجب إطلاقه. بل لا نزاع بين الناس، إلا نزاعا شاذا في الطلاق، أو فيه وفي العتق. فإن في الناس من يقول إنه لا يقبل رفع مطلقه بشرط ملحق، ولا باستثناء. يروى ذلك عن شريح، وهو قول في مذهب أحمد، وهو رواية شاذة عنه، والمتواتر عنه وعن سائر العلماء خلاف ذلك، وهو الصواب.

وليس المقصود هنا الكلام على خصوص هذه الأحاديث وتفسيرها، ولكن الغرض الكلام على ما احتج به المؤسس، من [ ص: 172 ] أن صرف الظواهر متفق على الحاجة إليه. ومقصوده بذلك صرفها بالأدلة القياسية، كما قد قرره في أثناء الكتاب، وبين أن اللفظ لا يجوز صرفه عن ظاهره إلا عند قيام الدليل القاطع على أن ظاهره محال، وأن الدليل القاطع لا يجوز صرفه عن ظاهره إلا عند قيام [دليل قاطع آخر، وهذا محال، وهذا] الذي قاله خلاف ما اتفقت عليه الأمة، وقد حكى هو في غير هذا الموضع اتفاق الأمة على خلافه، كما سنذكره إن شاء الله تعالى في موضعه.

التالي السابق


الخدمات العلمية