الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولكن الله سبحانه يوصف بأنه خليفة، وبأنه [خلف] من غيره، كما ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول: "اللهم أنت الصاحب في السفر، وأنت الخليفة في الأهل، اللهم اصحبنا في [ ص: 593 ] سفرنا هذا خيرا، واخلفنا في أهلنا"، ويقال في الوداع: "خليفتي عليك الله" وفي التعزية الذي ذكر الشافعي في مسنده أن أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم سمعوا صوت معز عزاهم بها: "يا أهل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم إن في الله [عزاء] من كل مصيبة، وخلفا من كل هالك، ودركا من كل فائت".

[ ص: 594 ] وذلك لأن الخليفة لا يكون إلا مع تغيب المستخلف، لا مع شهوده، والله شهيد على عباده، لا يغيب عنه شيء، مدبر للجميع، فلا يستخلف من يقوم مقامه في ذلك، كما يستخلف المخلوق للمخلوق، بل هو الخالق لكل شيء، المدبر لكل شيء، فالآدميون يموتون ويغيبون فيكون من يخلفهم، والله حي قيوم لا يغيب، فلا يكون له من يخلفه، بل هو سبحانه يخلف من يغيب أو يموت، كما يكون خليفة المؤمن في أهله إذا سافر، ويكون خليفة له إذا مات، فيكفي أولئك -الذين كان المؤمن [يكفيهم]- في هدايتهم ورزقهم ونصرهم.

[ ص: 595 ] يبين ذلك أن الإنسان إذا آتاه الله ملكا أو لم يؤته إما أن يكون عند الله عاملا بطاعته وطاعة رسوله، أو لا يكون:

فإن كان من القسم الأول كان من عباد الله كالنبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وهؤلاء هم الذين قال الله تعالى فيهم: إن عبادي ليس لك عليهم سلطان وقال إبليس : فبعزتك لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين [ص: 82-83]، ونحو ذلك، والعبد العامل بأمر الله هو عابد لربه متوكل عليه، لم [يخالف] ربه في أمر من الأمور، كما أن الملائكة الذين لا يستكبرون عن عبادته ولا يستحسرون يسبحون الليل والنهار لا يفترون، لا يسبقونه بالقول وهم بأمره يعملون، ليسوا خالفين لله في أمر من الأمور، وإن كانوا عاملين بأمره، عابدين له مطيعين، وهم المدبرات أمرا، والمقسمات [أمرا].

وإن كان الإنسان غير عامل بطاعة الله ورسوله، بل هو عاص لله ورسوله فهذا أبعد أن يكون عمله ذلك خلافة عن ربه، وهو يعمل ما يبغضه الله ويكرهه، وينهى عنه.

[ ص: 596 ] فقد ظهر أنه لا وجه [أن] يجعل واحد من هذين خليفة عن الله، لا من يعبده ولا من يطيعه، ولا من يشرك به ويعصيه.

هذا من جهة القضاء والقدر والأمر الكوني فإن الله خالق كل شيء، فهو خالق كل حي من الملائكة والإنس والجن والبهائم، وخالق قدرهم، وإراداتهم، وأفعالهم، كما أنه خالق غير الأحياء، وهو [و]إن كان يخلق الأشياء بعضها ببعض، كما يخلق النبات بالمطر، ويخلق المطر بالسحاب، فليس شيء من ذلك [خليفته]، إذ هو الخالق له، ولما يخلقه [به]، فهو رب كل شيء ومليكه، ولو جاز ذلك لكان كل مخلوق خليفة عن الله، بل جميع ذلك مسخر بأمره مصروف بمشيئته، مدبر بقدرته، منظوم (بحكمته، والله غني عن جميع ذلك، وكل ذلك فقير إليه، وليس الصغير أفقر إليه من [ ص: 597 ] الكبير) ولا المسبب بأفقر إليه من السبب، بل الجميع فقراء إليه، وهو رب الجميع ومليكه، وهو سبحانه ليس كمثله شيء في شيء من تدبيره، كما قال سبحانه: أم اتخذوا من دونه أولياء فالله هو الولي وهو يحيي الموتى وهو على كل شيء قدير وما اختلفتم فيه من شيء فحكمه إلى الله ذلكم الله ربي عليه توكلت وإليه أنيب فاطر السماوات والأرض جعل لكم من أنفسكم أزواجا ومن الأنعام أزواجا يذرؤكم فيه ليس كمثله شيء وهو السميع البصير [الشورى: 9-11].

يبين ذلك أن كل من خلف غيره في شيء فإنه يكون معينا له فيما يعجز عنه [المخلوف]، إما لعدم علمه به، وإما لعدم قدرته، فالخالف شريك للمخلوف ولقوله، كالأمير الذي يستخلف في الأمصار خلفاء عنه، فهم كلهم فاعلون ما لا يقدر هو وحده أن يفعله، وهم مشاركون له مكافئون له، وهو وهم متعاونون على جملة التدبير، وكل منهم ينتفع بما يعاونه الآخر عليه، والله تعالى ليس كذلك، بل هو الغني [ ص: 598 ] مطلقا بنفسه عن الخلق، وهو الخالق لكل شيء، ثم إن من رحمته أنه يأمر العبيد بما يصلحهم، وينهاهم عما يفسدهم، وهو الذي يعينهم [على] فعل المأمور وترك المحظور، ولا يقدرون [على] فعل ذلك إلا بإعانته، بل يخلق ذلك كله قال تعالى: قل ادعوا الذين زعمتم من دون الله لا يملكون مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض وما لهم فيهما من شرك وما له منهم من ظهير ولا تنفع الشفاعة عنده إلا لمن أذن له [سبإ: 22-23] وقال تعالى: وقل الحمد لله الذي لم يتخذ ولدا ولم يكن له شريك في الملك ولم يكن له ولي من الذل وكبره تكبيرا [الإسراء: 111]. وإنما يتخيل أنه خليفة عن الله، ونائب عنه، بمنزلة ما يعهد عن الخلفاء والنواب عن [المخلوقين، منهم] من يكون جبارا منازعا لله في كبريائه وعظمته، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: "يقول الله تعالى: العظمة إزاري والكبرياء ردائي، فمن نازعني واحدا منهما عذبته" فيكون مختالا يتخيل في نفسه أنه عظيم كبير، وأن أمره ونهيه وفعله بالنسبة إلى الله تعالى من جنس أمر الخليفة النائب عن غيره، ومن جنس نهيه [ ص: 599 ] وفعله، وهذا شرك وكذب وضلال وكبرياء، واختيال، وذلك أن الخليفة عن غيره يأمر وينهى ويفعل أمورا لم يدر بها المستخلف، ولم يقدر عليها، ولا يكون أمر بها ونهى، بل يكون أمر هذا من جنس أمر الأول كالوكيل مع موكله، وكالوصي مع [الموصي]، وهؤلاء بمنزلة أحد الشريكين مع الآخر، ولهذا جاءت الشريعة بذلك، فجعل الفقهاء الشركة في التصرف مبنية على الوكالة، وأن الشريك يتصرف لنفسه بحكم الملك، ولشريكه بحكم الوكالة والنيابة.

التالي السابق


الخدمات العلمية