الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وهو سبحانه وتعالى قد ذكر ذنوبهم في مثل قوله: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه وجعل منهم القردة والخنازير وعبد الطاغوت أولئك شر مكانا وأضل عن سواء السبيل [المائدة: 60]، وفي قوله: فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرا وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل [النساء: 160-161]، وفي قوله تعالى: ذلك بأنهم كانوا يكفرون بآيات الله ويقتلون الأنبياء بغير حق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون [آل عمران: 112]، ونحو ذلك.

[ ص: 315 ] ولم يعبهم قط بإثبات الصفات التي يسميها الجهمية تشبيها، ولا ذكر ذلك من ذنوبهم وما كان ربك نسيا [مريم: 64] وهذا دليل قاطع على أن هذه الصفات في الجملة منزلة من عند الله، وأنها حق ليست مما افتراه اليهود وابتدعوه، بل ذمهم على كتمان ذلك وغيره، وعلى تحريف الكلم عن مواضعه، فإن كثيرا منهم يحرفون ذلك ويكتمونه أكثر من تحريف الجهمية المنتسبين إلى الإسلام، وأكثر من كتمانهم.

وقد روي أن الجهم بن صفوان أخذ هذا المذهب الذي يتأول فيه الصفات عن الجعد بن درهم، والجعد أخذه عن [ ص: 316 ] [بيان] بن سمعان، وأخذه [بيان] من طالوت بن أخت لبيد بن أعصم، وأخذه طالوت من لبيد بن أعصم، الساحر الذي سحر النبي صلى الله عليه وسلم.

وهو من أعظم من نزل فيه قوله تعالى: [ ص: 317 ] ولما جاءهم رسول من عند الله مصدق لما معهم نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان وما كفر سليمان الآية [البقرة: 101-102]، وهذا مذكور في غير هذا الموضع.

فيكون قول المؤسس ونحوه من الجهمية هو قول المبدلين من اليهود الذين ذمهم الله عليه وأنكره عليهم وهم الذين نبذوا كتاب الله وراء ظهورهم، واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر، وحيث حرفوا كتاب الله بالتأويل الذي يحرفون فيه الكلم عن مواضعه.

وللمؤسس وأمثاله من ذلك أعظم شبه باليهود، حيث صنف (كتب السحر وعبادة الأوثان) وأمر باتباع ذلك وتعظيمه، وحرف كتاب الله تعالى، فهذا من أحوال اليهود التي ذمها الله تعالى في القرآن.

يبين ذلك أن الله ذم اليهود على كتمان ما عندهم من الكتاب، وأخبر أن الرسول بين لهم بعض ما كتموه، وعفا عن بعضه، فقال: قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب ويعفو عن كثير [ ص: 318 ] [المائدة: 15]، وقال: ومن أظلم ممن كتم شهادة عنده من الله [البقرة: 140]، وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنا قليلا [آل عمران: 187].

فهذا النبذ وراء ظهورهم هو ضد بيان ما فيه، وهو الحال التي وصفهم الله في قوله: نبذ فريق من الذين أوتوا الكتاب كتاب الله وراء ظهورهم كأنهم لا يعلمون واتبعوا ما تتلو الشياطين على ملك سليمان [البقرة: 101-102].

فلو كان ما عندهم من الصفات -وهي كثيرة جدا في التوراة- باطلا وكفرا وضلالا لم يكونوا مذمومين على نبذ ذلك وراء ظهورهم وعلى كتمانه، بل كان الواجب ذمهم على وجود ذلك في كتابهم وإقرار ذلك بينهم، كما ذم الذين يكتبون الكتاب بأيديهم، ثم يقولون هذا من عند الله.

التالي السابق


الخدمات العلمية