الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
أما التأويل الأول: وهو قولهم: على صورة الملك. فهو وإن كان فيه نوع شبهة من هذا الوجه، فالكلام عليه من وجوه:

أحدها: أن قوله: "إذا قاتل أحدكم فليتجنب الوجه، فإن الله خلق آدم على صورته" لو أريد أنه جعله ملكا مطاعا مدبرا كما أن الله ملك مطاع مدبر لم يناسب هذا الأمر باجتناب الوجه، إذ لا اختصاص له، ولأن صفة الملك لا تنافي استحقاق العقوبة.

الوجه الثاني: قوله: "لا يقولن أحدكم قبح الله وجهك ووجها أشبه وجهك، فإن الله خلق آدم على صورته" ذكر خلق آدم على صورته، لقوله: "وجها أشبه وجهك" وليس في كونه ملكا ما يقتضي ذلك، كما قال: فإن الله خلق آدم ملكا من الملوك.

[ ص: 582 ] الوجه الثالث: أنه لو أريد ذلك لم يكن فرق بين الوجه وسائر الأعضاء في النهي عن الضرب، والنهي عن التقبيح، إذ كون آدم مخلوقا على صفة الملك التي يتميز بها لا يخص عضوا دون عضو.

الوجه الرابع: أن كونه ملكا لا يوجب رفع العقوبة عنه إذا أذنب، إذ لو جاز ذلك لكان ملوك [بني آدم] ترفع عنهم عقوبة السيئات.

الوجه الخامس: أن كونه مخلوقا على صورة الملك ليس هذا عاما في جميع بني آدم، إذ منهم من يصلح للملك، ومنهم من لا يصلح أن يكون إلا مملوكا، بل منهم من هو أضل من البهائم، كما قال تعالى: ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون [الأعراف: 179]، وإذا كان كذلك -مع أن النهي عن ضرب الوجه وتقبيحه عام في جميع الآدميين، وصفة الملك والسؤدد ليست عامة- علم أنها ليست هي المراد بقوله: "على صورته".

الوجه السادس: أن الملك ليس مختصا بالآدميين، بل في أصناف البهائم الرئيس والمطاع، والمرؤوس المطيع، فما من [ ص: 583 ] طائفة من البهائم (والطير تجتمع كالنحل وغيرها إلا وفيها الرؤساء المطاعون. وأيضا فالملائكة كذلك، كما قال تعالى في جبريل إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين [التكوير: 19-21]. وإذا كان الأمر كذلك لم يكن [لآدم] اختصاص بالرئاسة، والملك، وإن كان لبني آدم من الاختصاص ما ليس لغيرهم، فالملائكة –أيضا- ليست كبني آدم، وأهل السنة وإن قالوا إن الأنبياء والأولياء أفضل من الملائكة، فلا يقولون إن جنس الآدميين مطلقا أفضل من جنس الملائكة، بل في بني آدم من هو شر من البهائم".

الوجه السابع: أن الملك صفة من صفات الله، وهو يعود إلى القدرة، أو القدرة والعلم والحكمة، فيكون ذلك داخلا في تأويل من تأوله على الصورة المعنوية، وهي صفة العلم والقدرة، وقد تقدمت الوجوه المتعددة في إبطال حمله على ذلك، وتلك الوجوه كلها تبطل هذا بطريق الأولى.

[ ص: 584 ] الوجه الثامن: أن تسمية ملك الله: صورة الله، أو تسمية تدبيره وقدرته صورته، مما لا يعرف في اللغة أصلا، فحمل الحديث عليه تحريف وتبديل محض.

الوجه التاسع: أن قوله: "خلق آدم على صورته" يقتضي أنه كان مخلوقا على صورته، ومعلوم أنه لم يخلق حينئذ ملكا، وإنما الملك حادث بعد ذلك.

الوجه العاشر: أن آدم نفسه لم يكن بعد أن خلق ملكا، ولا مطاعا، وبعد أن حدثت له الذرية.

الوجه الحادي عشر: قوله: "إن الله خلق آدم على صورته، طوله ستون ذراعا" إلى قوله: "فكل من يدخل الجنة على صورة آدم" صريح في أنه أراد صورة نفسه، لا قدرته وملكه.

التالي السابق


الخدمات العلمية