الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الوجه التاسع: أن يقال: هب أنهم لم يتفقوا على اشتمال [ ص: 306 ] التأويلات على أصناف الضلالات، فذلك معلوم بالضرورة العقلية فيما ذكره هذا المؤسس وأمثاله من التأويلات، وهذا مما يتعذر عده وإحصاؤه، فإنه ما زال أهل العقل والعلم إذا سمعوا كثيرا من هذه التأويلات ورأوها في المصنفات يعلمون أنها من أظهر الأمور فسادا في البديهي من المعقولات، ولا ينقضي تعجبهم من قوم يذهبون إلى تلك التأويلات ممن له في العلم صيت مشهور، وقد رأيت وسمعت من ذلك بعجائب، ولكن ننبه ببعض ما ذكره هذا المؤسس وذلك بأمثلة:

أحدها: قوله في تأويل قوله تعالى: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22]، الوجه الثاني: "إن الرب هو المربي فلعل ملكا عظيما هو أعظم الملائكة كان مربيا لمحمد صلى الله عليه وسلم وكان هو المراد من قوله: وجاء ربك ".

فهل يشك من له أدنى مسكة من عقل وإيمان أنه من المعلوم بالاضطرار في دين الإسلام أن هذا من أعظم الافتراء على الله وعلى رسوله، وعلى كلامه، وأن الله لم يجعل لمحمد [ ص: 307 ] قط ربا غير الله: وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وازرة وزر أخرى [الأنعام: 164]، وقد قال تعالى: وكذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس والجن يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غرورا ولو شاء ربك ما فعلوه فذرهم وما يفترون ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة وليرضوه وليقترفوا ما هم مقترفون أفغير الله أبتغي حكما وهو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا والذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق فلا تكونن من الممترين وتمت كلمت ربك صدقا وعدلا لا مبدل لكلماته [الأنعام: 112-115].

وأيضا فقال: هل ينظرون إلا أن تأتيهم الملائكة أو يأتي ربك أو يأتي بعض آيات ربك [الأنعام: 158]، وقال: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22]، والملك اسم جنس، ففصل بين ربه وبين الملائكة، والملائكة تعم جميع الملائكة. كما قال في الآية التالية: هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة [البقرة: 210]، ففصل بين اسم الله وبين الملائكة، وهناك سمى نفسه الله، وهنا سمى نفسه ربك.

فإذا جعل الجاعل رب محمد بعض الملائكة، فهذا مع أنه من أعظم الإلحاد في أسماء الله وآياته. أليس يعلم كل مسلم بل كل عاقل أنه معلوم الفساد بالضرورة؟ وأن الله ورسوله لم يرد [ ص: 308 ] بهذا الخطاب ذلك؟! وهل هذا التأويل إلا من جنس تأويل غلاة القرامطة في قوله: وهو العلي العظيم (255) أنه علي ابن أبي طالب، بل ذلك التأويل أقرب؛ لأن غايته أن يجعل علي بن أبي طالب من جنس المسيح ابن مريم، وهذا مذهب مع كونه من أعظم الكفر والضلال فعليه أمة عظيمة من بني آدم، وهم النصارى، ومن اتبعهم على الحلول والاتحاد، ودلالة لفظ (العلي) على علي بن أبي طالب أظهر من دلالة قوله: وجاء ربك والملك صفا صفا [الفجر: 22]، على أن ربه ملك من الملائكة. وإذا جاز تسمية بعض الملائكة رب محمد لأنه رباه -مع العلم بأن أحدا من الملائكة لم يرب محمدا- فتسمية (علي): (العلي العظيم) لما له من علو القدر والعظمة أقرب. المثال الثاني: قوله في تأويل قوله [ ص: 309 ] هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام والملائكة وقضي الأمر وإلى الله ترجع الأمور [البقرة: 210]: "الوجه الخامس: وهو أقوى من كل [ما] سبق أنا ذكرنا في (التفسير الكبير) قوله تعالى: يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة [البقرة: 208]، إنما [نزل] في حق اليهود، وعلى هذا التقدير يكون قوله تعالى: فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات [البقرة: 209] خطابا مع اليهود، فيكون قوله هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام [البقرة: 210]، حكاية عنهم، والمعنى: أنهم لا يقبلون دينكم، إلا [لأنهم] [ ص: 310 ] ينتظرون أن يأتيهم الله في ظلل من الغمام، ومما يدل على أن المراد ذلك: أنهم فعلوا ذلك مع موسى عليه السلام، فقالوا: لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة [البقرة: 55]. وإذا ثبت أن هذه [الآية] حكاية عن حال اليهود وعن اعتقادهم، لم [يمتنع] إجراء الآية على ظاهرها. وذلك لأن اليهود كانوا على دين التشبيه، وكانوا يجوزون المجيء والذهاب على الله تعالى، وكانوا يقولون: إنه تعالى تجلى لموسى على الطور في ظلل من الغمام فظنوا مثل ذلك في زمان محمد صلى الله عليه وسلم، ومعلوم أن مذهبهم ليس بحجة، وبالجملة فإنه يدل على أن قوما ينتظرون أن يأتيهم الله، وليس في الآية دلالة على أن أولئك الأقوام محقون أو مبطلون، وعلى هذا [التقدير] زال الإشكال، وهذا هو الجواب المعتمد عن تمسكهم بالآية المذكورة في سورة الأنعام، فإن قيل: هذا التأويل كيف يتعلق [ ص: 311 ] بهذه الآية، [لأنه] قال في آخرها: وإلى الله ترجع الأمور [البقرة: 210]؟ قلنا إنه تعالى حكى عنادهم وتوقيفهم قبول [الدين] الحق على الشرط الفاسد، ثم ذكر بعدها ما يجري مجرى التهديد لهم، فقال: وإلى الله ترجع الأمور [البقرة: 210]. هذا لفظه.

فمن تدبر هذا الكلام أليس يعلم بالضرورة أن هذا من أعظم الافتراء على الله، وعلى كتابه، حيث جعل خطابه مع المؤمنين خطابا مع اليهود، مع أن الله سبحانه دائما في كتابه يفصل بين الخطابين فيقول لأولئك يا بني إسرائيل، أو يا أهل الكتاب، ويقول لهؤلاء: يا أيها الذين آمنوا، والخطاب لبني إسرائيل للمؤمنين فيه اعتبار؛ لأن القرآن كله هدى للمؤمنين.

فإذا جعل خطاب المؤمنين الصريح خطابا لليهود فقط أليس هذا من أعظم تبديل القرآن؟!. وقد قال بعد هذه الآية: سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة [البقرة: 211]، فلم سماهم بني إسرائيل، وإنما أمر المؤمنين بالدخول في السلم كافة، أي في جميع الإسلام لا في بعضه دون بعض، وأن [ ص: 312 ] يدخلوا كلهم لا يدخله بعض دون بعض، ولهذا قال لهم: فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات فاعلموا أن الله عزيز حكيم [البقرة: 209] ولا يقال إن زللتم لمن هم مقيمون على الكفر والضلال والزلل، كاليهود.

التالي السابق


الخدمات العلمية