الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وإذا كان العقلاء من جميع الطوائف مقرين بأنه لا بد من إبطال جنس التأويل، وأن فيه ما هو باطل محرم، فمعلوم أن هذا ليس هو مثل ما ذكره من اتفاق الطوائف على الإقرار بأنه لا بد من [ ص: 294 ] التأويل في بعض ظواهر القرآن والأخبار، فإنه لم يذكر نقلا للإجماع في شيء مما ذكره. وأما هذا فهو منقول بالاتفاق، لا ينكره أحد، بل ما من أحد إلا وهو ينكر كثيرا من تأويل ظواهر القرآن والأخبار التي قد يتأولها بعض الناس، ويقول إنها باطلة، إما بالضرورة، وإما بالنظر، وكل من هؤلاء المختلفين يقول: إن العقل يوجب عليه التأويل الذي يزعم الآخر أنه تأويل باطل. وعند هذا فيقول نفاة هذه التحريفات -الحق الذي هو أحسن تفسيرا من قول أولئك [المتكلمين] يقولون- إذا ثبت أن هذه التأويلات منها باطل كثير باتفاق الطوائف، وثبت أن الحق الذي يدعيه مدع فيها لم يتفق على أنه حق، بل النزاع واقع فيه، هل هو حق أو باطل، وهم يقولون لا يفصل بينهم إلا العقل، وكل منهم يدعي أن العقل معه، وليس العقل متكلما ظاهرا يفصل بينهم، كان الفصل بينهم متعذرا، وكذلك النزاع بينهم واقعا لازما ضرورة عدم الفصل بينهم، وكان معهم باطل قطعا، ولم يعلم أن معهم حقا، أو الحق الذي معه لا يمكن تمييزه، كانت مذاهبهم من جنس مذاهب اليهود والنصارى بعد التبديل، بل أولئك أجود مما يقوله هؤلاء من التأويلات، وإن لم [ ص: 295 ] يكونوا أجود في الجملة مما هو عليه كل طائفة من طوائف المسلمين، إذ مع كل طائفة من المسلمين الذين هم مسلمون حقيقة من الحق الذي لا ريب فيه أعظم مما مع اليهود والنصارى.

لكن الكلام هنا في تأويلاتهم التي ينازعهم فيها أهل الإثبات، فإن أهل الكتابين معهم حق مأثور عن الأنبياء [بلا ريب] ومعهم باطل ابتدعوه، وباطل حرفوه، كما مع هؤلاء الجهمية ونحوهم من المتكلمين، ومع هذا فلا نزاع بين المسلمين أنه لا يجوز اتباعهم في علومهم، وأنهم ضلال.

وقد ثبت في (صحيح البخاري) أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إذا حدثكم أهل الكتاب فلا تصدقوهم ولا تكذبوهم، فإما أن يحدثوكم بحق فتكذبوه، وإما أن يحدثوكم بباطل فتصدقوه".

[ ص: 296 ] كان هؤلاء المتكلمون بهذه التأويلات أولى أن ترد عليهم كلها، ولا يقبل منها شيء، إذ لم يعلم أن فيها ما هو حق، فإذا كان الكلام الذي علم أن فيه حقا وباطلا قد أمرنا أن لا نقبله فمثل هذا الكلام أولى أن لا نقبله.

وهذا بين ظاهر لمن قصده إسكات هؤلاء عن التأويلات، ومنعهم من التكلم بها، ومنع قبولها.

التالي السابق


الخدمات العلمية