الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 495 ] وقد نقل أهل المقالات عن جهم أنه كان لا يقول: إن الله شيء. وهذا معنى ما ذكره أحمد، فإنهم وإن أطلقوا أنه شيء لا كالأشياء، فلم يريدوا أنه ليس بمثل لها، فإن ذلك حق، ولهذا لم ينكر أحمد قولهم: "ليس كمثله شيء من الأشياء". لكن أرادوا نفي الشبه من كل وجه، [ومعناه شيء] لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه، ولهذا قال الإمام أحمد: "فقلنا: إن الشيء [الذي] لا كالأشياء، قد عرف أهل العقل أنه لا شيء، فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا". فبين الإمام أحمد أنه يعلم بالمعقول الصريح الذي [يشترك] فيه العقلاء أن ما لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه لا شيء، كما نقل الناس أن جهما يقوله، ولهذا قال: "فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا" أي: لجميع العقلاء، فإن هذا لا يختص أهل السمع والكتاب، بل يشترك فيه العقلاء كلهم، فهذا سؤال عن كونه موجودا، ثم سألهم عن كونه معبودا، فإن هذا يختص به من يوجب عبادة الله وهم المسلمون قديما وحديثا.

[ ص: 496 ] قال: "فإذا قيل لهم: من تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، فقلنا: هذا الذي يدبر أمر الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم. قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون".

فهنا جعل الكلام [مع] المسلمين الذين يعبدون الله تعالى، والعبادة متضمنة لقصد المعبود وإرادته، والقصد والإرادة مستلزم لمعرفته والعلم به، فلما قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق، ثم قالوا: هو مجهول لا يعرف بصفة فحينئذ تبين للمسلمين الذين يعبدون الله أنهم لا يثبتون شيئا يعبدونه، وإنما هم منافقون في ذلك، لأن ما لا يعرف بصفة يمتنع أن يقصد فيعبد، فعرف المسلمون بطلان قولهم [أنهم] يعبدون الله ويثبتونه، كما عرف أهل العقل بطلان كونهم يقرون بوجوده ويثبتونه، وهم الذين أنكروا أن يعرف بصفة، فأنكروا صفاته مطلقا، وأنكروا أن يشبه الأشياء بوجه من الوجوه، فأنكروا بذلك وجوده.

[ ص: 497 ] وكذلك ذكر محمد بن جرير الطبري في (تاريخه) لكن أرسل ذلك -والله أعلم بحقيقته- أنه لما قرئ على علماء بغداد من المحنة كتاب المأمون، الذي دعا الناس فيه إلى التجهم، فيه: لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه، أقر بذلك من أقر به، وأما أحمد فقال: "لا أقول لا يشبه الأشياء بوجه من الوجوه".

وهذا يبين كمال علمه ومعرفته بالأقوال المنافية لدين الإسلام واحترازه منها، مع أن كثيرا من الناس يطلق هذه العبارة ويريد بذلك نفي المماثلة، ومقصوده صحيح، وقد يريد به ما يجمع الحق والباطل، أو يريد تنزيها مطلقا لا يحصل معناه.

وهؤلاء لا يريدون حقيقة قول الجهمية، ومما يبين ذلك أنه [ ص: 498 ] ليس في كتاب الله ولا سنة رسوله، ولا كلام أحد من الصحابة، والتابعين، ولا الأكابر من أتباع التابعين، ذم المشبهة، وذم التشبيه، أو نفي مذهب التشبيه، ونحو ذلك، وإنما اشتهر ذم هذا من جهة الجهمية، كما ذكره الإمام أحمد.

التالي السابق


الخدمات العلمية