الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
ولهذا لما عرف الأئمة ذلك وعرفوا حقيقة قول الجهمية وأن نفيهم لذلك من كل وجه مستلزم لتعطيل الصانع ووجوده: كانوا [يبينون] ما في كلامهم من النفاق [ ص: 491 ] والتعطيل، ويمنعون عن إطلاق لفظهم العليل، لما فهموه من مقصودهم، وإن لم يفهمه أهل الجهل والتضليل.

مثل ما ذكره الإمام أحمد، فيما خرجه في الرد على الجهمية، وقد ذكرناه فيما تقدم، قال فيه -في وصف قول الجهم: "ووجد ثلاث آيات في القرآن من المتشابه، قوله: ليس كمثله شيء [الشورى: 11] وهو الله في السماوات وفي الأرض [الأنعام: 3] و لا تدركه الأبصار فبنى أصل كلامه على هؤلاء الآيات، وتأول القرآن على غير تأويله، وكذب بأحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وزعم أن من وصف [الله بشيء] مما وصف به نفسه في كتابه أو حدث عنه رسوله صلى الله عليه وسلم كان كافرا [وكان] من المشبهة، [ ص: 492 ] وأضل بشرا كثيرا، وتبعه على قوله رجال من أصحاب أبي حنيفة، وأصحاب عمرو بن عبيد بالبصرة، ووضع دين الجهمية، فإذا سأله الناس عن قول الله عز وجل: ليس كمثله شيء [الشورى: 11] ما تفسيره؟ يقول: ليس كمثله شيء من الأشياء، هو تحت الأرضين [السبع] كما هو على العرش، لا يخلو منه مكان، ولا يكون في مكان دون مكان، ولا يتكلم، ولا ينظر إليه أحد في الدنيا، ولا ينظر إليه أحد في الآخرة، ولا يوصف، ولا يعرف بصفة، ولا بفعل، [ ص: 493 ] ولا له غاية، ولا منتهى، ولا يدرك بعقل، وهو وجه كله، وهو علم كله، وهو سمع كله، وهو بصر كله، وهو نور كله، وهو قدرة كله، [ولا يكون فيه شيئان مختلفان ولا يوصف بوصفين مختلفين] وليس له أعلى ولا أسفل، ولا نواحي ولا جوانب، ولا يمين ولا شمال، ولا هو خفيف ولا ثقيل، ولا له لون ولا [له] جسم، وليس هو معلوما، وكل ما خطر على قلبك أنه شيء تعرفه فهو على خلافه، فقلنا: هو شيء. فقالوا: هو شيء لا كالأشياء، فقلنا: إن الشيء الذي لا كالأشياء قد عرف أهل العقل أنه لا شيء، فعند ذلك تبين للناس أنهم لا يثبتون شيئا، ولكن يدفعون عن أنفسهم الشنعة [ ص: 494 ] بما يقرون في العلانية، فإذا قيل لهم: فمن تعبدون؟ قالوا: نعبد من يدبر أمر هذا الخلق. فقلنا: فهذا الذي يدبر أمر هذا الخلق هو مجهول لا يعرف بصفة؟ قالوا: نعم. قلنا: قد عرف المسلمون أنكم لا تثبتون شيئا، إنما تدفعون عن أنفسكم الشنعة بما تظهرون.

وقلنا لهم: هذا الذي يدبر هو الذي كلم موسى. قالوا: لم يكلم، ولا يتكلم، لأن الكلام لا يكون إلا بجارحة، والجوارح عن الله منفية، فإذا سمع الجاهل قولهم يظن أنهم من أشد الناس تعظيما لله تعالى ولا يعلم أنهم إنما يقودون قومهم إلى الضلالة والكفر".

التالي السابق


الخدمات العلمية