الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيهات

                                                                                                                                                                                                                              الأول : الأمراض نوعان :

                                                                                                                                                                                                                              أمراض مادية : تكون عن زيادة مادة أفرطت في البدن حتى أخرت أفعاله الطبيعية ، وهي الأمراض الأكثرية ، وسببها : إدخال الطعام على البدن قبل هضم الأول ، والزيادة في القدر الذي يحتاج إليه البدن ، وتناول الأغذية القليلة النفع البطيئة الهضم ، والإكثار من الأغذية المختلفة التراكيب المتنوعة ، وإملاء الآدمي بطنه من هذه الأغذية ، واعتياده ذلك ، أورثته أمراضا متنوعة ، فإذا توسط في الغذاء ، وتناول منه قدر الحاجة ، وكان معتدلا في كميته وكيفيته ، كان انتفاع البدن به أكثر من انتفاعه بالغذاء الكثير .

                                                                                                                                                                                                                              ومراتب الغذاء ثلاث : [ ص: 107 ] أحدها : مرتبة الحاجة .

                                                                                                                                                                                                                              والثانية : مرتبة الكفاية .

                                                                                                                                                                                                                              والثالثة : مرتبة الفضلة ، فأخبر النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه يكفيه لقيمات يقمن صلبه ، فلا تسقط قوته ، ولا تضعف معها ، فإن تجاوزها فليأكل في ثلث بطن ، ويدع الثلث الآخر للماء ، والثلث للنفس ، وهذا أنفع ما للبدن والقلب ، فإن البطن إذا امتلأ من الطعام ، ضاق عن الشراب ، فإذا ورد عليه الشراب ، ضاق عن النفس ، وعرض عليه الكرب والتعب بحمله ، بمنزلة حامل الحمل الثقيل ، والشبع المفرط يضعف القوى والبدن ، وإنما يقوى البدن بحسب ما يقل من الغذاء لا بحسب كثرته ، ومن تأمل هديه -صلى الله عليه وسلم- وجده أفضل هدي لحفظ الصحة ، فإن حفظها موقوف على حسن تدبير المطعم والمشرب والملبس والمسكن والهواء والنوم واليقظة والحركة والسكون والمنكح والاستفراغ والاحتباس .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني : كان -عليه الصلاة والسلام- إذا عاف طعاما لم يأكله ، ولم يكره نفسه عليه ، وهذا أصل عظيم في حفظ الصحة ، وكان يحب اللحم ، ويحب من الذراع؛ لأنه أخف على المعدة ، وأسرع انهضاما ، وكذلك لحم الرقبة والعضد ، وكان يحب الطواء والعسل ، وهذه الثلاثة من أفضل الأغذية وأنفعها للبدن والكبد والأعضاء ، وللاغتذاء بها نفع عظيم في حفظ الصحة والقوة ، ولا ينفر منها إلا من به علة أو آفة ، وكان يأكل من فاكهة بلده عند مجيئها ، ولا يحتمي عنها ، وهذا أيضا من أكبر أسباب حفظ الصحة ، فإن الله- تعالى- بحكمته جعل في كل بلد من الفاكهة ما ينتفع به أهلها في وقته ، فيكون تناوله من أسباب صحتهم وعافيتهم ويغني عن كثير من الأدوية إذا لم يسرف في تناولها ولم يفسد بها الغذاء قبل هضمه ولا أفسدها بشرب الماء عليها ، وتناول الغذاء بعد التخلي منها ، فمن أكل منها ما ينبغي في الوقت الذي ينبغي على الوجه الذي ينبغي كانت له دواء نافعا ، وقل من احتمى عن فاكهة بلده خشية السقم إلا وهو أسقم الناس وأبعدهم من الصحة والقوة .

                                                                                                                                                                                                                              ولم يأكل طعاما في وقت شدة حرارته ، ولا طبيخا بايتا يسخن له بالغد ، ولا جمع قط بين غذاءين ، وكان يأكل متوركا على ركبتين ، ويضع بطن قدمه اليسرى على ظهر قدمه اليمنى ، وهذه الهيئات أنفع هيئات الأكل وأفضلها؛ لأن الأعضاء كلها تكون على وضعها الطبيعي ، وأردأ الجلسات للأكل الاتكاء على الجنب؛ فإنه يمنع مجرى الطعام على هيئته ، ويعوقه عن سرعة تعوده إلى المعدة ، ولذا

                                                                                                                                                                                                                              قال -عليه الصلاة والسلام- : «لا آكل متكئا» رواه البخاري وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه؛ فإنه يمنع مجرى الطعام ويعوقه على سرعة نفوذه إلى المعدة ، وقد نهى عن الأكل منبطحا ، عن ابن عمر والحاكم عن علي . [ ص: 108 ]

                                                                                                                                                                                                                              الثالث : قال ابن القيم : وأما هديه -عليه الصلاة والسلام- في الشراب فمن أكمل هدي يحفظ به الصحة ، فإن الماء إذا جمع وصفي مع الحلاوة والبرودة كان من أنفع شيء للبدن ، ومن أكبر أسباب الصحة ، وللأرواح والقوى والكبد والقلب عشق شديد له واستمداد منه والماء البارد رطب يقمع الحرارة ويحفظ على البدن رطوبته الأصلية ، ويرد عليه بدل ما تحلل منها ، ويرقق الغذاء وينفذه في العروق ، وإذا كان باردا أو خالطه ما يحليه كالعسل أو الزبيب أو التمر أو السكر كان من أنفع ما يدخل البدن ويحفظ عليه صحته ، والماء الفاتر ينفخ ويفعل ضد هذه الأشياء ، والبائت أنفع من الذي يشرب وقت استقائه ، فإن الماء البائت بمنزلة العجين الخمير ، والذي يشرب لوقته بمنزلة الفطير .

                                                                                                                                                                                                                              وكان من هديه -عليه الصلاة والسلام- الشرب قاعدا؛ لأن في الشرب قائما آفات عديدة ، [منها أنه لا يحصل به الري التام ، ولا يستقر في المعدة حتى يقسمه الكبد على الأعضاء] فينزل بسرعة واحدة إلى المعدة فيخشى منه أن يبرد حرارتها ، ويسرع النفوذ إلى أسافل البدن بغير تدريج ، وكل هذا يضر بالشارب ، وأما الشرب منبطحا فالأطباء تكاد تحرمه ويقولون : لأنه يضر بالمعدة .

                                                                                                                                                                                                                              وكان من هديه -صلى الله عليه وسلم- أنه يشرب في ثلاثة أنفاس ، وفي هذا الشرب حكم جمة وفوائد مهمة ، وقد نبه -عليه الصلاة والسلام- على مجامعها؛ لقوله : «إنه أروى وأمرأ وأبرأ» .

                                                                                                                                                                                                                              وكان -عليه الصلاة والسلام- يشرب نقيع التمر يلطف به كيموسات الأغذية الشديدة ، وله نفع عظيم في زيادة القوة وحفظه الصحة .

                                                                                                                                                                                                                              وكان يشرب اللبن خالصا تارة ، ومشوبا بالماء أخرى ، وله نفع عظيم في حفظ الصحة ، وترطيب البدن ، وري الكبد ، ولا سيما اللبن الذي يرعى دوابه القيصوم والخزامى وما أشبهها؛ فإن لبنها غذاء من الأغذية ، وشراب مع الأشربة ، ودواء مع الأدوية .

                                                                                                                                                                                                                              وكان يشرب العسل الممزوج بالماء البارد ، وفي هذا من حفظ الصحة ما لا يهتدي إلى معرفته إلا أفاضل الأطباء ، فإن شربه ولعقه على الريق يذيب البلغم ويغسل خمل المعدة ، ويجلو لزوجتها ، ويدفع عنها الفضلات ويسخنها ، ويفتح سددها ، ويفعل مثل ذلك بالكبد والكلى والمثانة ، وهو أنفع للمعدة من كل حلو دخلها ، وإنما يضر بالعرض لصاحب الصفراء لحدته ، ودفع مضرته بالخل ، قوله «فإنه أروى» : أشد ريا فأبلغه وأنفعه ، وأبرأ : أفعل من البرء وهو الشفاء ، أن يبرأ من شدة العطش ودائه؛ لتردده على المعدة الملتهبة دفعات فتسكن الدفعة الثانية ما [ ص: 109 ] عجزت الأولى عن تسكينه ، والثالثة ما عجزت عنه الثانية ، وأيضا ، فإنه أسلم لحرارة المعدة وأبقى عليها من أن يهجم عليها البارد وهلة واحدة ، فيطفئ الحرارة الغريزية ، ويؤدي إلى فساد مزاج المعدة والكبد ، وإلى أمراض رديئة .

                                                                                                                                                                                                                              وقوله : «وأمرأ» : بميم بعد الهمزة ، أي : ألذ وأنفع ، وقيل : أسرع انحدارا عن المريء لسهولته وخفته عليه .

                                                                                                                                                                                                                              ومن آفات الشرب دفعة واحدة أنه يخاف منه الشرق؛ لأن الشارب إذا شرب تصاعد البخار الدخاني الحار الذي كان على القلب والكبد لورود الماء البارد عليه ، فإذا أدام الشرب اتفق نزول الماء وصعود البخار ، فيتدافعان ويتعالجان ، ومن ذلك يحدث الشرق ولا يهنأ الشارب ولا يتم ريه ، وقد علم بالتجربة أن ورود الماء على الكبد يؤلمها ويضعف حرارتها؛ ولذا قال -صلى الله عليه وسلم- : «أصل الكباد من العب» .

                                                                                                                                                                                                                              قال في المنهج السوي : الكباد بضم الكاف وتخفيف الباء . وجع الكبد .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية