الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              الباب السابع في الكلام على المقام المحمود ، والكلام على بقية شفاعته- صلى الله عليه وسلم-

                                                                                                                                                                                                                              قال الله عز وجل : عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا [الإسراء : 79] أجمع المفسرون على أن «عسى» من الله واجب؛ لأن «عسى» تفيد الإطماع ، والله أعظم من أن يطمع أحدا ثم لا يعطيه ما أطمعه فيه .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : الجمهور على أن المراد بالمقام المحمود الشفاعة ، وبالغ الواحدي ، فنقل فيه الإجماع ، ولكنه أشار إلى ما جاء عن مجاهد وزيفه .

                                                                                                                                                                                                                              وقال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل : المقام المحمود الذي يقومه النبي- صلى الله عليه وسلم- ليريحهم من كرب الموقف ، وفي الأحاديث تصريح بذلك؛ فروى ابن خزيمة والطبراني وابن جرير بسند صحيح قال : « يشفعه الله في أمته فهو المقام المحمود » .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد وابن حبان والحاكم وصححاه عن كعب بن مالك - رضي الله تعالى عنه- أن رسول الله- صلى الله عليه وسلم- قال : «يبعث الله الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ويكسوني ربي حلة خضراء ، ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود » .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- في الآية ، قال : هو المقام الذي أشفع فيه لأمتي .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن جرير والطبراني من طرق عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنهما- قال : « المقام المحمود الشفاعة » .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والترمذي وحسنه وابن جرير عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه- قال : سئل عنها رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فقال : «هي الشفاعة» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن جرير عن مجاهد في الآية قال : المقام المحمود الشفاعة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى مسلم وابن حبان والحاكم وابن جرير عن كعب بن مالك رفعه « أكون أنا وأمتي على تل فيكسوني ربي حلة خضراء ثم يؤذن لي فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود » .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البخاري عن ابن عمر - رضي الله تعالى عنهما- قال : «سمع [ ص: 463 ] رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : إن الشمس تدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم فيقول : لست بصاحب ذلك ، ثم موسى فيقول كذلك ، ثم بمحمد فيشفع ، فيقضي الله بين الخلق ، فيمشي حتى يأخذ بحلقة باب الجنة ، فيومئذ يبعثه الله مقاما محمودا يحمده أهل الجمع كلهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقد تقدم في الباب قبله الكلام على الشفاعة العظمى وبقي الكلام على بقية الشفاعات .

                                                                                                                                                                                                                              فالثانية :

                                                                                                                                                                                                                              الشفاعة في إدخال قوم الجنة بغير حساب .

                                                                                                                                                                                                                              ودليله

                                                                                                                                                                                                                              قوله تعالى في جواب قوله- صلى الله عليه وسلم- أمتي أمتي : أدخل الجنة من أمتك من لا حساب عليهم من الباب الأيمن .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : كذا قيل ، ويظهر إلى أن دليله سؤاله- صلى الله عليه وسلم- الزيادة على السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب فأجيب .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد والبيهقي بسند جيد عن أبي هريرة - رضي الله تعالى عنه- عن النبي- صلى الله عليه وسلم- قال : سألت ربي- عز وجل- فوعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا على صورة القمر ليلة البدر لا حساب عليهم؛ فاستزدت ربي فزادني مع كل ألف سبعين ألفا .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني والبيهقي بسند فيه ضعف عن عمرو بن حزم الأنصاري - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : «إن ربي وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ، وإني سألت ربي في هذه الثلاثة الأيام المزيد ، فوجدت ربي ماجدا كريما ، فأعطاني مع كل واحدة من السبعين ألفا سبعين ألفا» .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الترمذي وحسنه والطبراني وابن حبان والضياء وصححاه عن أبي أمامة - رضي الله تعالى عنه- قال : سمعت رسول الله- صلى الله عليه وسلم- يقول : « وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفا لا حساب عليهم ولا عذاب ، مع كل ألف سبعون ألفا وثلاث حثيات من حثيات ربي » .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الطبراني وابن أبي عاصم نحوه عن أبي سعيد الأنماري فحسبنا عند رسول الله- صلى الله عليه وسلم- فبلغ أربعة آلاف ألف وتسعمائة ألف .

                                                                                                                                                                                                                              قال الحافظ : يعني من عد الحثيات .

                                                                                                                                                                                                                              وروى الإمام أحمد وأبو يعلى بسند فيه ضعف عن أبي بكر الصديق - رضي الله تعالى [ ص: 464 ] عنه- نحو حديث أبي هريرة بلفظ : فاستزدته فزادني مع كل واحد سبعين ألفا ، والأحاديث في ذلك شهيرة .

                                                                                                                                                                                                                              الثالثة :

                                                                                                                                                                                                                              في أناس حوسبوا واستحقوا العذاب أن لا يعذبوا ، وذلك ما رواه الطبراني وابن أبي الدنيا والحاكم ، وصححه والبيهقي عن ابن عباس - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : « يوضع للأنبياء منابر من نور يجلسون عليها ، ويبقى منبري لا أجلس عليه أو قال : لا أقعد عليه ، قائم بين يدي ربي منتصبا مخافة أن يبعث بي إلى الجنة وتبقى أمتي بعدي فأقول : يا رب ، أمتي أمتي ، فيقول الله تبارك وتعالى : وما تريد أن أصنع بأمتك ؟ فأقول : يا رب ، عجل حسابهم ، فيدعى بهم ، فيحاسبون ، فمنهم من يدخل الجنة برحمته ، ومنهم من يدخل بشفاعتي ، فما أزال أشفع حتى أعطى صكاكا برجال قد بعث بهم إلى النار حتى إن مالكا خازن النار ليقول : يا محمد ، ما تركت لغضب ربك في أمتك من نقمة .

                                                                                                                                                                                                                              الرابعة :

                                                                                                                                                                                                                              في إخراج ناس من المذنبين دخلوا النار ، والأدلة على ذلك كثيرة شهيرة في الصحيحين وغيرهما ، ولا عبرة بإنكار المعتزلة لها .

                                                                                                                                                                                                                              الخامسة :

                                                                                                                                                                                                                              في رفع درجات ناس في الجنة ذكرها القاضي والنووي واستدل لها بما رواه مسلم عن أنس - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : « أنا أول شفيع في الجنة » .

                                                                                                                                                                                                                              السادسة :

                                                                                                                                                                                                                              في أطفال البشر .

                                                                                                                                                                                                                              وروى ابن أبي شيبة وأبو يعلى بسند صحيح والدارقطني في الإفراد والضياء عن أنس - رضي الله تعالى عنه- قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : « سألت ربي اللاهين من ذرية البشر فأعطانيهم » ،

                                                                                                                                                                                                                              قال أبو عمر : هم الأطفال؛ لأن أعمالهم كالسهو واللعب من غير تقدم عقد ولا عزم .

                                                                                                                                                                                                                              وروى أبو نعيم عنه قال : قال رسول الله- صلى الله عليه وسلم- : « سألت ربي أن يتجاوز لي عن أطفال المشركين فتجاوز عنهم وأدخلهم الجنة » . [ ص: 465 ]

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية