الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              تنبيه :

                                                                                                                                                                                                                              أخرج البيهقي من طريق أرطأة قال : اجتمع رجال من أهل الطب عند ملك من الملوك ، فسألهم : ما رأس دواء المعدة ؟ فقال كل رجل منهم قولا ، وفيهم رجل ساكت ، فلما فرغوا قال : ما تقول أنت ؟ قال : ذكروا أشياء وكلها تنفع بعض النفع ، ولكن ملاك ذلك ثلاثة أشياء : لا تأكل طعاما أبدا إلا وأنت تشتهيه ، ولا تأكل لحما يطبخ لك حتى يتم إنضاجه ، ولا تبتلع لقمة حتى تمضغها مضغا شديدا لا يكون على المعدة فيها مؤونة .

                                                                                                                                                                                                                              وروى البيهقي عن إبراهيم بن علي الذهلي قال : «أخرج من جميع الكلام أربعة آلاف كلمة ، وأخرج منها أربعمائة كلمة ، وأخرج منها أربعون كلمة ، وأخرج منها أربع كلمات ، أولهن : لا تثقن بالنساء . والثانية : لا تحمل معدتك ما لا تطيق ، والثالثة : لا يغرنك المال ، والرابعة : يكفيك من العلم ما ينتفع به .

                                                                                                                                                                                                                              والأمور الطبيعية سبعة :

                                                                                                                                                                                                                              إحداها :

                                                                                                                                                                                                                              الأركان ، وهي أربعة : النار وهي حارة يابسة باردة .

                                                                                                                                                                                                                              الثاني :

                                                                                                                                                                                                                              المزاج ، وأقسامه تسعة ، وهي منقسمة إلى : معتدل ، وغير معتدل .

                                                                                                                                                                                                                              فالمعتدل : واحد .

                                                                                                                                                                                                                              وغير المعتدل : إما مفرد ، وهو أربعة : حار ، وبارد ورطب ويابس .

                                                                                                                                                                                                                              وإما مركب ، وهو أربعة أيضا : حار يابس ، وحار رطب ، وبارد يابس ، وبارد رطب . وأعدل أمزجة الحيوان مزاج الإنسان ، وأعدله مزاج المؤمنين ، وأعدله مزاج الأنبياء ، وأعدله مزاج المرسلين ، وأعدله مزاج أولي العزم ، وأعدل أولي العزم مزاجا مزاج محمد -صلى الله عليه وسلم- وعليهم أجمعين؛ وذلك أن من فوائد الأطباء أن أخلاق النفس تابعة لمزاج البدن ، فكلما كان أعدل كانت أخلاق النفس أحسن .

                                                                                                                                                                                                                              إذا علم ذلك فالحق- سبحانه وتعالى- قد شهد لرسول الله -صلى الله عليه وسلم- بأنه على خلق عظيم ، وقالت عائشة -رضي الله تعالى عنها- : «كان خلق رسول الله -صلى الله عليه وسلم- القرآن» .

                                                                                                                                                                                                                              فلزم من ذلك أن مزاجه -صلى الله عليه وسلم- أعدل الأمزجة ، وإذا كان كذلك كان خلقه أحسن [ ص: 97 ] الأخلاق ، والشباب أعدل ، والصبيان أرطب ، والكهل والشيخ أبرد ، وأعدل الأعضاء مزاجا جلد أنملة السبابة ، ثم جلد الأنامل ، وأحر الأعضاء القلب ثم الكبد ثم اللحم .

                                                                                                                                                                                                                              قال وهب بن منبه : ومن قدرته تعالى ولطفه جعل عقله في دماغه ، وسره في كليته ، وغضبه في كبده ، وصرامته في قلبه ، وصحته في طحاله ، وحزنه وفرحه في وجهه ، وجعل فيه ثلاثمائة وستين مفصلا ، وأبردها العظم ثم العصب ثم النخاع ثم الدماغ ، وأيبسها العظم ، وأرطبها السمين .

                                                                                                                                                                                                                              وثالثها :

                                                                                                                                                                                                                              الأخلاط الأربعة ، فإذا تساوت في الشخص اعتدل خلقه ، فإذا غلب أحدهم سمي الشخص باسم ما يغلب عليه منها ، فيقال لصاحب الدم- وهو أفضلها- وهو رطب حار دموي .

                                                                                                                                                                                                                              وفائدته : تغذية البدن الطبيعي ومنه يتولد عنه حمرة العينين ، والرمد والجدري والدماميل والأورام الرخوة وأمراض أخر ، ثم البلغم ، وهو رطب بارد .

                                                                                                                                                                                                                              فائدته : أن يستحيل دما إذا فقد البدن الغذاء ، وأن يرطب الأعضاء لئلا تجففها الحركة .

                                                                                                                                                                                                                              والطبيعي منه : ما قارب الاستحالة إلى الدموية .

                                                                                                                                                                                                                              وغير الطبيعي منه : المالح ، ويميل إلى حرارة ، والحامض ويميل إلى البرد والمشيخ وهو خالص البرد ، ويتولد منه البرص ، والفالج ، والحمى المطبقة ، وأمراض أخر ، ثم الصفراء وينصب جزء منها إلى الأمعاء ، فينبه على خروج البخر .

                                                                                                                                                                                                                              والطبيعي منها : أحمر خفيف .

                                                                                                                                                                                                                              وغير الطبيعي : فالمخي والكداني والزنجاري والاحتراقي وهو في الزنجاري أقوى من الكداني ، فلذلك ينذر بالموت ، وتسمى المرة الصفراء ، وينشأ عنه الصداع واليرقان الأصفر ، والأورام الصفيراء ، وحمى الغب ، وأمراض أخر ، ثم السوداء وهي يابسة باردة ، وهي تغلظ الدم ، وتغذي الطحال والعظام ، وينصب جزء منها إلى فم المعدة ، فينبه على الجوع لحموضتها .

                                                                                                                                                                                                                              والطبيعي منها : رديء الدم .

                                                                                                                                                                                                                              وغير الطبيعي : يحدث عن احتراق أي خلط كان ، ويسمى المرة السوداء ، وينشأ عنها الجذام والجرب والحكة والفالج والسكتة وحمى الثلث .

                                                                                                                                                                                                                              ورابعها :

                                                                                                                                                                                                                              الأعضاء الأصلية ، وهي تتولد من المني .

                                                                                                                                                                                                                              وخامسها :

                                                                                                                                                                                                                              الأرواح .

                                                                                                                                                                                                                              وسادسها :

                                                                                                                                                                                                                              القوى ، وهي ثلاث : الطبيعية ، والحيوانية ، والنفسانية . [ ص: 98 ]

                                                                                                                                                                                                                              وسابعها :

                                                                                                                                                                                                                              الأفعال ، وهي الجذب والدفع .

                                                                                                                                                                                                                              وأحوال بدن الإنسان ثلاثة : الصحة ، والمرض ، وحالة لا صحة ولا مرض ، كالناقة ، وهو الذي برئ من مرضه ولم يرجع لحالته الأولى ، والشيخة .

                                                                                                                                                                                                                              فالصحة هيئة بدنية تكون الأفعال معها سليمة ، فالعافية أفضل ما أنعم الله على الإنسان بعد الإسلام ، إذ لا يتمكن الإنسان من حسن تصرفه والقيام بطاعة ربه إلا بوجودها ، ولا مثل لها ، فليشكرها العبد ولا يكفرها .

                                                                                                                                                                                                                              وقد قال -صلى الله عليه وسلم- : «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ» رواه البخاري .

                                                                                                                                                                                                                              وقال -عليه الصلاة والسلام- : «سلوا الله العفو والعافية ، فإنه ما أوتي أحد بعد اليقين خيرا من معافاة» رواه النسائي .

                                                                                                                                                                                                                              وعنه -صلى الله عليه وسلم- : «ما سئل الله شيئا أحب إليه من أن يسأل العافية» رواه الترمذي .

                                                                                                                                                                                                                              وسأل أعرابي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال : يا رسول الله ، ما أسأل الله بعد الصلوات ؟ قال : «سل الله العافية» .

                                                                                                                                                                                                                              وفي حكمة داود -عليه الصلاة والسلام- : «العافية ملك خفي ، وغم ساعة هرم سنة» .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : العافية تاج على رؤوس الأصحاء ، لا يبصرها إلا المرضى .

                                                                                                                                                                                                                              وقيل : العافية نعمة مغفول عنها .

                                                                                                                                                                                                                              وكان بعض السلف يقول : كم لله من نعمة تحت كل عرق ساكن ، اللهم ارزقنا العفو والعافية في الدين والدنيا والآخرة .

                                                                                                                                                                                                                              والمرض : حالة مضادة للصحة ، يخرج بها الجسم عن المجرى الطبيعي ، وكل مرض له ابتداء فيزيد ، وانحطاط وانتهاء .

                                                                                                                                                                                                                              والأسباب ستة :

                                                                                                                                                                                                                              أحدها :

                                                                                                                                                                                                                              الهواء ، ويضطر إليه لتعديل الروح ، فما دام صافيا لا يخالطه نتن وريح خبيثة ، كان حافظا للصحة ، فإن تغير تغير حكمه ، وكل فصل فإنه يورث الأمراض المناسبة له ، ويزيل المضادة له ، فالصيف يثير الصفراء ، ويوجب أمراضها ، ويبرئ الأمراض الباردة ، والهواء البارد يشد البدن ويقويه ، ويجيد الهضم ، والحار بالضد ، وعند تغير الهواء يكون الوباء . [ ص: 99 ]

                                                                                                                                                                                                                              والثاني :

                                                                                                                                                                                                                              ما يؤكل ويشرب ، فإن كان حارا أثر في البدن حرارة ، وبالضد .

                                                                                                                                                                                                                              والثالث :

                                                                                                                                                                                                                              الحركة والسكون البدنيان ، فالحركة تؤثر في البدن تسخينا ، والسكون بالضد .

                                                                                                                                                                                                                              والرابع :

                                                                                                                                                                                                                              الحركة والسكون النفسانيان ، كما في القبض والفرح والهم والغم والخجل ، فإن هذه الأحوال تحصل بحركة الروح ، إما إلى داخل البدن ، وإما إلى خارجه .

                                                                                                                                                                                                                              والخامس :

                                                                                                                                                                                                                              النوم واليقظة ، فالنوم يغور الروح إلى داخل البدن ، فيبرد الظاهر؛ ولذلك يحتاج النائم إلى الدثار ، واليقظة بالضد .

                                                                                                                                                                                                                              والسادس :

                                                                                                                                                                                                                              الاستفراغ والاحتباس .

                                                                                                                                                                                                                              فالمعتدل منهما نافع حافظ للصحة ولعق الإناء يعيق على الهضم ويفتق المعدة .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية