الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وقوله صلى الله عليه وسلم : إنما الصلاة تمسكن وتواضع حصر بالألف واللام وكلمة إنما للتحقيق والتوكيد وقد فهم الفقهاء من قوله صلى الله عليه وسلم : إنما الشفعة فيما لم يقسم الحصر والإثبات والنفي وقوله صلى الله عليه وسلم : من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد من الله إلا بعدا وصلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء والمنكر وقال صلى الله عليه وسلم : كم من قائم حظه من صلاته التعب والنصب وما أراد به إلا الغافل وقال صلى الله عليه وسلم : ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل منها والتحقيق فيه أن المصلي مناج ربه عز وجل كما ورد به الخبر والكلام مع الغفلة ليس بمناجاة ألبتة .

التالي السابق


ثم لما فرغ المصنف من الاستدلال بالآيات شرع في الاستدلال بالسنة فقال: (وقوله -صلى الله عليه وسلم-: إنما الصلاة تمسكن وتواضع) إلى آخر الحديث، وقد تقدم تخريجه قريبا، وهكذا أورده صاحب القوت، زاد المصنف فقال: (حصر بالألف واللام) ، أي: في قوله: إنما الصلاة (وكلمة إنما) فيه (للتحقيق والتوكيد) ، وإفادة، إنما الحصر قد ذكره ابن دقيق العيد وغيره. وقال إن ابن عباس فهمه من حديث: "إنما الربا في النسيئة". ولم يعارض في فهمه الحصر، بل عورض بحديث أبي سعيد: "لا تبيعوا الذهب بالذهب إلا مثلا بمثل، ولا تشفوا بعضها على بعض". وقد روى الترمذي في جامعه عن ابن عباس جواز التفاضل، ثم قال: وقد روي عن ابن عباس أنه رجع عن قوله حين حدثه أبو سعيد مرفوعا، وقال ابن أبي شريف في حاشيته على جمع الجوامع: وقد ذهب إمام الحرمين والقاضي أبو الطيب إلى إفادة إنما الحصر مع احتمالها لتأكيد الإثبات، قال: وهذا هو مختار الغزالي .

(وقد فهم الفقهاء من قوله عليه) الصلاة و (السلام: إنما الشفعة فيما لم يقسم) ، فإذا وقعت الحدود وصرفت الطرق فلا شفعة، (الحصر والإثبات والنفي) ، وفي بعض النسخ: الحصر بين الإثبات والنفي، وهذا الحديث أغفله العراقي، ولفظه عند البخاري من طريق أبي سلمة عن جابر؛ إنما جعل رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشفعة فيما لم يقسم، الحديث، ولمسلم نحوه بمعناه من طريق أبي الزبير عن جابر، ورواه الشافعي عن سعيد بن سالم، عن ابن جريج، عن أبي الزبير، عن جابر بلفظ: "الشفعة في كل ما لم يقسم، فإذا وقعت الحدود فلا شفعة". ورواه مالك عن الزهري عن ابن المسيب مرسلا، وهو هكذا في الموطأ، (وقوله -صلى الله عليه وسلم-: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده) ، وفي رواية القوت: لم يزدد، (من الله إلا بعدا) ، أي: من رحمة [ ص: 112 ] الله تعالى (و) ، لا يخفى أن (صلاة الغافل لا تمنع من الفحشاء) والمنكر، وتقدم الكلام على تخريج هذا الحديث، وأخرج البيهقي عن الحسن مرسلا: "من صلى صلاة، فلم تأمره بالمعروف، ولم تنهه عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلا بعدا". (وقال -صلى الله عليه وسلم-: كم من قائم حظه من صلاته) ، وفي نسخة: من قيامه، (التعب والنصب) . قال العراقي: أخرج النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة: "رب قائم ليس له من قيامه إلا السهر"، ولأحمد : "رب قائم حظه من صلاته السهر"، وإسناده حسن. اهـ .

قلت: لفظ ابن ماجه : "رب صائم ليس له من صيامه إلا الجوع، ورب قائم ليس له من قيامه إلا السهر". والرواية الثانية التي عزاها لأحمد هكذا رواه الحاكم والبيهقي، وأخرجه الطبراني في الكبير من حديث ابن عمر بلفظ: "رب قائم حظه من قيامه السهر، ورب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش". قال المناوي: المراد بالقائم المتهجد في الأسحار، والمعنى: لا ثواب له فيه لعقد شرط حصوله، وهو الإخلاص أو الخشوع؛ إذ المرء لا يثاب إلا على عمله بقلبه، وأما الفرض فيسقط، والذمة تبرأ بعمل الجوارح، فلا يعاقب عقاب تلك العبادة، بل يعاتب أشد عتاب حيث لم يرغب فيما عند ربه من الثواب، (وما أراد به) أي: بهذا القائم (إلا الغافل) ، فإنه يقوم الليل يصلي من غير خشوع .

(وقال -صلى الله عليه وسلم-: ليس للعبد من صلاته إلا ما عقل) ، هكذا أورده صاحب القوت، وقال العراقي: لم أجده مرفوعا، وروى محمد بن نصر المروزي في كتاب الصلاة له من رواية عثمان بن أبي دهرش مرسلا: "لا يقبل الله من عبد عملا حتى يحضر قلبه مع بدنه". ورواه أبو منصور الديلمي في مسند الفردوس من حديث أبي بن كعب، ولابن المبارك في الزهد موقوفا على عمار: "لا يكتب للرجل من صلاته ما سها عنه".

قلت: ومن أدلة اشتراط الخشوع في الصلاة ما رواه الديلمي عن أبي سعيد رفعه: "لا صلاة لمن لا يخشع في صلاته". وأخرج أيضا عن ابن مسعود رفعه: "لا صلاة لمن لا يطيع الصلاة، وطاعة الله أن تنهى عن الفحشاء والمنكر".

(والتحقيق فيه أن المصلي مناج ربه -عز وجل- كما ورد به الخبر) ، قال البخاري : حدثنا مسلم بن إبراهيم، حدثنا هشام، عن قتادة عن أنس قال النبي -صلى الله عليه وسلم-: إن أحدكم إذا صلى يناجي ربه عز وجل، فلا يتفلن عن يمينه، ولكن تحت قدمه اليسرى". حدثنا حفص بن عمر، حدثنا يزيد بن إبراهيم، حدثنا قتادة عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "اعتدلوا في السجود، ولا يبسط أحدكم ذراعيه كالكلب، وإذا بزق فلا يبزقن بين يديه ولا عن يمينه، فإنه يناجي ربه، وأخرجه مسلم كذلك من حديث أنس، (والكلام) الصادر منه (مع) وجود صفة (الغفلة) ، والذهول عن معرفة ذلك الكلام (ليس بمناجاة البتة) ، والمناجاة المخاطبة والمساررة. قال المناوي: ومناجاته لربه من جهة إتيانه بالذكر والقراءة، ومناجاة ربه له من جهة لازم ذلك، وهو إرادة الخير مجازا. وفي الحديث إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون قلب المصلي فارغا من غير ذكر الله تعالى .




الخدمات العلمية