الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
فإن لم تكن كذلك كنت كاذبا فاجتهد في أن تعزم عليه في الاستقبال ، وتندم على ما سبق من الأحوال .

وإذا قلت : وما أنا من المشركين فأخطر ببالك الشرك الخفي فإن قوله تعالى فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا نزل ، فيمن يقصد بعبادته وجه الله وحمد الناس وكن حذرا مشفقا من هذا الشرك واستشعر الخجلة في قلبك إن وصفت نفسك بأنك لست من المشركين من غير براءة عن هذا الشرك فإن اسم الشرك يقع على القليل والكثير منه .

وإذا قلت محياي : ومماتي لله فاعلم أن هذا حال عبد مفقود لنفسه موجود لسيده وأنه إن صدر ممن رضاه وغضبه وقيامه وقعوده ورغبته في الحياة ، ورهبته من الموت لأمور الدنيا لم يكن ملائما للحال .

التالي السابق


(فإن لم تكن كذلك كنت كاذبا) في قولك (فاجتهد أن تعزم عليه في الاستقبال، وتندم على ما سبق من) التقصير في (الأحوال) في أداء حق الإسلام، (وإذا قلت: وما أنا من المشركين) فاعلم أن الشرك على قسمين: جلي وخفي، فالجلي عبادة الأوثان، والنجوم وغيرها من دون الله تعالى، وقد صان الله أمة محمد -صلى الله عليه وسلم-، فلا يخطر هذا بباله مطلقا، وإنما الكلام على القسم الثاني (فأخطر ببالك الشرك الخفي) الذي هو أخفى من دبيب النمل على الصفا في الليلة الظلماء، والإشارة في ذلك أن الحنف هو الميل كما تقدم، والإسلام هو الانقياد، فلما أثبت له الوصفين صح له أن يقول مائلا منقادا إلى جناب الحق من إمكاني إلى وجوب وجودي بربي، فيصح لي التنزه عن العدم، فأبقى في الخير المحض وما أنا في هذا الميل من المشركين .

يقول: ما علمت بأمري، وإنما الحق علمني كيف أتوجه إليه، وبماذا أتوجه إليه، وعلى أي حالة أكون في التوجه إليه، فافهم هذه الإشارة ولا تتعلق بظاهر العبارة، ثم أشار إلى نفي الشرك الخفي بقوله: (فإن قوله تعالى) في آخر سورة الكهف ( فمن كان يرجو لقاء ربه ) ، قال مجاهد : ثواب ربه، وقال سعيد بن جبير: من كان يخشى البعث في الآخرة، قلت: وهذا يؤيد ما تقدم أن الرجاء قد يستعمل بمعنى الخوف، وعليه حمل قوله تعالى: ما لكم لا ترجون لله وقارا ( فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا ، أنزل فيمن يقصد بعبادته وجه الله -عز وجل- وحمد الناس) ، أخرج ابن أبي حاتم عن كثير بن زياد قال: قلت للحسن: قول الله تعالى: فمن كان يرجو ، الآية قال: في المؤمن نزلت .

قلت: أشرك بالله، قال: لا، ولكن أشرك بذلك العمل عمل عملا يريد الله والناس، فذلك يرد الله عليه .

وأخرج هناد في الزهد عن مجاهد قال: "جاء رجل إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فقال: يا رسول الله أتصدق بالصدقة وألتمس بها ما عند الله، وأحب أن يقال لي خير، فنزلت هذه الآية". قال: ولا يشرك، أي: لا يرائي بعبادة ربه أحدا، وأخرج عبد الرزاق وابن أبي الدنيا في الإخلاص وابن أبي حاتم عن طاوس قال: قال رجل: "يا نبي الله إني أقف أبتغي وجه الله، وأحب أن يرى موطني فلم يرد عليه شيئا حتى نزلت هذه الآية". وأخرجه الحاكم وصححه، والبيهقي موصولا عن طاوس عن ابن عباس، وقد وقع مصرحا في حديث ابن عباس من روايات أخر أن هذا الرجل الذي نزلت فيه هو جندب بن زهير، وهكذا هو عند ابن منده، وأبي نعيم في الصحابة، وابن عساكر من طريق السدي الصغير عن الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عباس ولفظهم: فلما كان جندب بن زهير إذا صلى أو صام أو تصدق فذكر بخير ارتاح له، فزاد في ذلك لمقالة الناس؛ ولأنه ندبه الله فنزل في ذلك قوله: فمن كان يرجو ، الآية، وقال سعيد بن جبير في قوله: ولا يشرك، أي: لا يرد بعمله أحدا من خلقه .

وأخرج ابن أبي حاتم عن عبد الواحد بن زيد قال: قلت للحسن: أخبرني عن الرياء أشرك هو؟ قال: نعم، يا بني أوما تقرأ: فليعمل عملا ، الآية (فكن حذرا متقيا من هذا) النوع من (الشرك واستشعر الخجلة في قلبك) ، واستحي من الله -عز وجل- (إذ وصفت نفسك بأنك لست من المشركين) ، ونفيت نفسك عن جملتهم (من غير براءة عن هذا الشرك) الذي هو حمد الناس لك، ويروا موطنك في الصلاة، فيدخل السرور عليك بذلك، (فإن اسم الشرك يقع على القليل والكثير منه) ، كما تقدم من قول الحسن، وأخرج ابن أبي الدنيا في الإخلاص وابن مردويه والحاكم وصححه، والبيهقي عن شداد بن أوس [ ص: 144 ] قال: كنا نعد الرياء على عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الشرك الأصغر، وعنه أيضا رفعه: "من صلى يرائي، فقد أشرك، ومن صام يرائي فقد أشرك، ومن تصدق يرائي فقد أشرك". وأخرج أحمد والحاكم وصححه، والبيهقي عن أبي سعيد رفعه: "الشرك الخفي أن يقوم الرجل يصلي لمكان رجل". وأخرج ابن أبي شيبة عن محمود بن لبيد رفعه: "إياكم وشرك السرائر، قالوا: وما شرك السرائر؟ قال: أن يقوم أحدكم يزيد في صلاته جاهدا لينظر الناس إليه، فذلك شرك السرائر". وأخرج الحاكم وصححه من حديث معاذ رفعه: "أن يسيرا من الرياء شرك". (وإذا قلت: إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله) رب العالمين، أما قوله: إن صلاتي ونسكي، فهو إن كان مرائيا في عمله فهو كاذب، والله أغنى الشريكين لا يقبل عنده إلا ما ابتغي وجهه خالصا، فلا يقول بلسانه: إن صلاتي ونسكي لله، وقلبه غافل عن الله مشغول بسواه .

وأما قوله: ومحياي ومماتي لله، (فاعلم أن هذا حال مفقود لنفسه) لا يغيب عن ربه طرفة عين بل مداوم على مراقبته (موجود لسيده) فإن من فني عن نفسه بقي بالله، ومن راقب على قلبه بوحدانية الله تعالى وطرد ما سواه، وجد الله وإحسانه، وحينئذ يفوز بعلم اليقين، وهو أن يرى حياته وموته به وله، وأنه هو المحيي وهو المميت، ثم يزيد حضورا إلى أن يترقى إلى عين اليقين، ثم يزيد استغراقا بدرجة إلى حق اليقين ثم يفنى عن ذلك به، وذلك حقيقة اليقين .

(و) ليعلم (أنه) أي: هذا الكلام (إن صدر ممن رضاه وغضبه وقيامه وقعوده ورغبته في الحياة، ورهبته من الموت لأمور الدنيا) ، أي: لغرض من أغراضها المتعلقة بأمورها (لم يكن ملائما) ، أي: مناسبا (للحال) الذي هو فيه، فالفاني عن نفسه، والباقي بالله هو الذي محياه ومماته لله، وفي إضافة هذه الأمور إلى نفسه إشارة إلى أنه ما ظهرت هذه الأفعال، ولا يصح أن تظهر إلا بوجود العبد إذ يستحيل على الحق إضافة هذه الأشياء إليه بغير حكم الإيجاد فتضاف إلى الحق من حيث إيجاد أعيانها، كما تضاف إلى العبد من كونه محلا لظهور أعيانها فيه، فهو المصلي، فاعلم ذلك حتى تعرف ما تضيفه إلى نفسك مما لا يصح أن تضيفه إلى ربك عقلا، وتضيف إلى ربك ما لا يصح أن تضيفه إلى نفسك شرعا، والمعنى أن صلاتي وعبادتي وحالة حياتي ومماتي لله، أي: إيجاد ذلك كله لله لا لي، أي: ظهور ذلك في من أجل الله لا من أجل ما يعود علي في ذلك من الخير، فالعالم من عبد الله وغير العالم يعبده لما يرجوه من حظوظ نفسه في تلك العبادة، فلهذا شرع لنا أن نقول: لله رب العالمين، والله أعلم .



وقال المصنف في المقصد الأسنى في شرح اسمه تعالى الوهاب ما نصه: لا يتصور من العبد الجود والهبة، فإنه ما لم يكن الفعل أولى به من الترك لم يقدم عليه، فيكون إقدامه عليه لغرض نفسه، ولكن الذي يبذل جميع ما يملكه حتى الروح لوجه الله تعالى فقط لا للوصول إلى نعيم الجنة، أو الحذر من عذاب النار، أو لحظ عاجل أو آجل مما يعد من حظوظ البشرية فهو جدير بأن يسمى وهابا وجوادا ودونه الذي يجود لينال نعيم الجنة، ودونه الذي يجود لينال حسن الأحدوثة، وكل من لم يطلب عوضا يتناوله سمي جوادا عند من يظن أنه لا عوض إلا الأعيان، فإن قلت: فالذي يجود بكل ما يملك خالصا لوجه الله تعالى من غير توقع حظ عاجل أو آجل كيف لا يكون جوادا، ولا حظ له فيه أصلا قلت: حظه هو الله تعالى ورضاه ولقاؤه، والوصول إليه، وذلك هو السعادة التي يكسبها الإنسان بأفعاله الاختيارية وهو الحظ الذي يستحقر سائر الحظوظ في مقابلته .

فإن قلت: فما معنى قولهم: إن العارف بالله تعالى هو الذي يعبد الله خالصا لا لحظ وراءه، فإن كان لا يخلو فعل العبد عن حظ فما الفرق بين من يعبد الله خالصا، وبين من يعبده لحظ من الحظوظ، فاعلم أن الحظ عبارة عند الجماهير عن الأغراض المشهورة عندهم، ومن تنزه عنها ولم يبق له مقصد إلا الله فيقال: إنه قد تبرأ من الحظوظ، أي: عما يعده الناس حظا، وهو كقولهم: إن العبد يراعي سيده لا لسيده ولكن لحظ يناله بخدمته، وأما الوالد فإنه يراعي ولده لذاته لا لحظ يناله منه، بل لو لم يكن منه حظ أصلا لكان معتنيا بمراعاته، ومن طلب شيئا لغيره لا لذاته فكأنه لم يطلب فإنه ليس هو غاية طلبه، بل غاية طلبه غيره، فمن يعبد الله للجنة فقد جعل الله واسطة طلبه [ ص: 145 ] ولم يجعله غاية مطلبه، وعلامة الواسطة أنه لو حصلت الغاية دونها لم تطلب الواسطة، فلو حصلت الجنة لمن يعبد الله تعالى لأجلها دون عبادة الله تعالى لما عبد الله تعالى، فمحبوبه ومطلوبه الجنة، إذا لا غير .

وأما من لم يكن له محبوب غير الله تعالى ولا مطلوب سواه، بل حظه الابتهاج بلقائه والقرب منه والمراقبة للملأ الأعلى من المقربين من حضرته، فيقال: إنه يعبد الله تعالى لله لا على معنى أنه غير طالب للحظ، بل على معنى أن الله تعالى هو حظه، وليس يبتغي وراءه عطاء، ومن لم يؤمن بلذة البهجة بلقاء الله ومعرفته والمشاهدة له والقرب منه لم يشتق إليه، ومن لم يشتق إليه لم يتصور أن يكون ذلك من حظه، فلم يتصور أن يكون ذلك مقصده أصلا، فكذلك لا يكون في عبادته إلا كالأجير السوء لا يعمل إلا بأجرة طمعا فيها، وأكثر الخلق لم يذوقوا هذه اللذة ولم يعرفوها ولا يفهمون لذة النظر إلى وجه الله تعالى، فإنما إيمانهم بذلك من حيث النطق باللسان، فأما بواطنهم فإنها مائلة إلى التلذذ بلقاء الحور العين وغيره في الجنة فقط، فافهم من هذا أن البراءة من الحظوظ محال إن كنت تجوز أن يكون الحظ هو الله تعالى، أي: لقاؤه ومشاهدته والقرب منه مما يسمى حظا، فإن كان الحظ عبارة عما تعرفه الجماهير، وتميل إليه فليس هذا حظا، وإن كان الحظ عبارة عما حصوله أولى من عدمه في حق العبد فهو حظ، والله أعلم اهـ .



"(تنبيه)

حال العبد المفقود لنفسه الموجود لسيده حال أبي يزيد البسطامي قدس سره؛ حيث قال مشيرا إلى هذا المقام: انسلخت نفسي عن نفسي كما تنسلخ الحية عن جلدها، فنظرت فإذا أنا هو، والمعنى أنه انسلخ عن شهوات نفسه وهواها وهمها فلم يبق فيه متسع لغيره تعالى، ولم يكن همه سواه، فإذا لم يجد في القلب إلا جلال الله وجماله حتى صار مستغرقا به يصير كأنه هو لا أنه هو تحقيقا، وفرق بين قولنا هو هو وبين قولنا كأنه هو، ولكن قد يعبر بقولنا: هو هو عن قولنا كأنه هو هو توسعا ومجازا، ومن ترقى بالمعرفة عن الموهومات والمحسوسات، وبالهمة عن الحظوظ والشهوات نال هذا المقام وصفا له، هذا المرام، ثم إذا قلت: لا شريك له وأنت تشرك معه في عبادته، فهو كذب آخر، والمعنى لا إله مقصود بهذه العبادة إلا الله الذي خلقني من أجلها، أي: لا أشرك فيها نفسي بما يخطر له من الثواب الذي وعد الله لمن هذه صفته، وقد ذهب بعضهم إلى الحضور مع الثواب في حال هذه العبادة، وكفر من لم يقل به، وهذا ليس بشيء، وهو من أكابر المتكلمين غير أنه لم يكن من العلماء بالله في طريق الأذواق، بل كان من أهل النظر الأكابر منهم، ولا يعتبر عند أهل الكشف ما يخالفهم فيه علماء الرسوم إلا في نقل الأحكام المشروعة، فإن فيها يتساوى الجميع، ويعتبر فيها المخالف بالقدح في الطريق الموصل أو في المفهوم باللسان العربي .

وأما في غير هذا، فلا يعتبر إلا مخالفة الجنس، وهذا سار في كل صنف من العلماء بعلم خاص، فافهم ذلك، وإذا قلت: وبذلك أمرت أي: بمجموع ما ذكر من توجيه وجه البدن والقلب للكعبة وربها وبالتحنف والإسلام وعدم التشريك معه في العبادة، وأنت في جميع ذلك عار عن الإخلاص غير مطابق قلبك مع بدنك، وإنما أمرت أن تعبد الله مخلصا له دينه، ففيه كذب آخر .

فإذا قلت: وأنا من المسلمين، فالمسملون عند شروطهم، فهل أنت تفي بتلك الشروط وتعرف حقوقهم التي أوجبها الله عليك، ولا بد أنك تقصر عن ذلك، فهذا كذب آخر، فإذا كان دعاء الاستفتاح مشتملا على عدة أكاذيب ومخالفات، فكيف حالك في سائر الصلاة، وما توفيقي إلا بالله ولا حول ولا قوة إلا بالله .




الخدمات العلمية